هل العملات الرقمية الحكومية تهدد مستقبل النقد الورقي؟
بين طموحات الرّقمنة ومخاوف الاختراقات، تبرز العملات الرقمية الحكومية كأداةٍ ماليّةٍ ثوريّةٍ قد تُعيد تشكيل النّظام النّقديّ العالميّ وتقلّل الاعتماد على الورقيّ

في عصرٍ تسوده الثّورة الرّقميّة وتعاد فيه هيكلة النّظم الماليّة، تظهر العملات الرقمية الحكوميّة، أو ما يعرف بالعملات الرقمية للبنوك المركزيّة (CBDC) كخطوةٍ ثوريّةٍ تُعيد تعريف النّقد وتواجه التّحوّلات الّتي أحدثتها العملات الرقمية المستقلّة كبيتكوين وإيثيريوم. تحاول الدّول، من خلال هٰذا النّهج، أن تسيطر على مسار التّقدّم الماليّ الرّقميّ، وتطوّر أدواتٍ بديلةً للنّقد الورقيّ، تجمع بين الأمن، والكفاءة، والتّكلفة الأقلّ، وتخفيف مخاطر غسيل الأموال والفساد الماليّ.
ما هي العملات الرقمية الحكومية؟
تعرف العملات الرقمية الحكوميّة بأنّها أدواتٌ ماليّةٌ يصدرها البنك المركزيّ بشكلٍ رقميٍّ، وتعتبر نسخةً حديثةً للنّقود، إمّا لتكون مكمّلةً للنّقد الورقيّ أو بديلةً عنه. تتميّز هٰذه العملات بالرّقمنة والمرونة، وتعتبر أداةً فعّالةً لمواجهة القصور القائم في الأنظمة الماليّة التّقليديّة. وقد باشرت كثيرٌ من الدّول دراسة إمكانيّة تطبيق نسخها الخاصّة من هٰذه العملات، وعلى رأسها الصّين الّتي اختبرت اليوان الرّقميّ بشكلٍ واسعٍ.
ورغم التّقدم الّذي تعكسه هذه المبادرات، إلّا أنّ العملات الرّقميّة الحكوميّة لا تشكّل نهايّةً فوريّةً للنّقد الورقي، وإنّما تعتبر خطوةً تدريجيّةً نحو تقليل الاعتماد عليه، خصوصاً في المجتمعات الّتي تفتقر إلى بنيةٍ تحتيةٍ رقميّةٍ متكاملةٍ.[1]
فوائد العملات الرقمية الحكومية
تكمن قوّة العملات الرقمية في أنّها تجمع بين ميزات النّقود الرّسميّة ومرونة التّقنيّة الرّقميّة، ممّا يؤهّلها لتأدية أدوارٍ جوهريّةٍ في دعم الاقتصاد، ومن أهمّ هٰذه الفوائد: [2]
تعزيز قدرة البنوك المركزية على ضبط السياسة النقدية
تمكّن العملات الرقمية الحكومية البنوك المركزيّة من فهم سلوك الأفراد والمؤسّسات الماليّة بدقّةٍ أكبر، من خلال إتاحة وصولٍ مباشرٍ إلى البيانات المرتبطة بالتّعاملات. ويساعد ذٰلك على تطوير أدوات السّياسة النّقديّة، كسرعة تحديث أسعار الفائدة، وفعّاليّة السّيطرة على التّضخّم والطّلب الاجماليّ.
تقليل تكاليف طباعة وتوزيع النقد الورقي
يتطلّب الإصدار التّقليديّ للنّقد الورقيّ موارد كبيرةً في مجال الطّباعة، والأمن، والنّقل، والتّوزيع. بينما يمكن للعملات الرقمية الحكومية أن تقلّص هٰذه التكاليف بنسبٍ كبيرةٍ، ممّا يفسح المجال لتوجيه الموارد نحو خدماتٍ ماليّةٍ أخرى أكثر فعّاليّةً وعصرنةً.
تتبّع دقيق وشامل للتعاملات المالية
تساهم الهيكليّة الرّقميّة لهٰذه العملات في إتاحة معلوماتٍ آنيّةٍ ومفصّلةٍ حول كيفيّة تحرّك الأموال. ويعدّ ذٰلك عاملاً حاسماً في صياغة سياساتٍ ماليّةٍ أكثر دقّةً، وفهم اتّجاهات الانفاق والادّخار في السّوق بشكلٍ فعّالٍ.
تقليل أنشطة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب
تتيح البيانات الرّقميّة القابلة للتّتبّع فرصةً للكشف المبكّر عن التّعاملات المريبة، وذٰلك عبر نظمٍ ذكيّةٍ لرصد التّحرّكات المشبوهة. وبذٰلك، تسهم العملات الرقمية الحكوميّة في تعزيز النّزاهة الماليّة وتضييق الخناق على الشّبكات غير القانونيّة، دون المساس بالخصوصيّة الشّرعيّة للأفراد.
تجعل هٰذه الفوائد المتداخلة من العملات الرّقميّة الحكوميّة أكثر من مجرّد بديلٍ للنّقد، بل أداةً إستراتيجيّةً قادرةً على إعادة تشكيل النّظام الماليّ بمجمله.
تحديات تواجه العملات الرقمية الحكومية
رغم الإمكانات الهائلة الّتي تحملها العملات الرّقميّة الحكوميّة، فإنّ تطبيقها وتبنّيها يظلّ مشروعاً معقّداً يصطدم بجملةٍ من التّحدّيات التّقنيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، ومن أبرز هٰذه التّحدّيات: [1]
- مخاوف الأمن السّيبرانيّ ومقاومة الاختراقات: بما أنّ العملات الرّقميّة الحكوميّة تعتمد على بنيةٍ تحتيّةٍ إلكترونيّةٍ متطوّرةٍ، فإنّ حمايتها من الهجمات السّيبرانيّة تتطلّب تطوير أنظمةٍ أمنيّةٍ عالية الدّقّة والموثوقيّة. فأيّ خللٍ أو اختراقٍ يمكن أن يقوّض ثقة المستخدمين، ويعرّض البنية الماليّة لمخاطر جسيمةٍ.
- تأثيرها المحتمل على نموذج أعمال البنوك التّقليديّة: إنّ تبنّي العملات الرّقميّة من قبل البنوك المركزيّة قد يؤثّر بشكلٍ عميقٍ في دور البنوك التّقليديّة، وذٰلك بسبب احتمال استغناء الأفراد عن وسطاء ماليّين في بعض الخدمات. هٰذا التّغيير يمكن أن يضعف ربحيّة القطاع المصرفيّ، ويؤثّر في توفّر القروض وسرعة الدّوران الماليّ.
- حجم الاستثمار اللّازم لتطوير بنيةٍ تحتيّةٍ رقميّةٍ آمنةٍ: يتطلّب تصميم وتشغيل نظامٍ للعملات الرقمية الحكومية استثماراً ضخماً في تقنيّات البلوكتشين، والأنظمة السّحابيّة، وشبكات التّوصيل الآمنة. كما يجب تأهيل الكوادر البشريّة وتطوير أطرٍ تشريعيّةٍ ورقابيّةٍ تناسب هٰذه النّقلة التّقنيّة، وهٰذا ما يشكّل تحدّياً ماليّاً ومؤسّسيّاً غير هيّنٍ، خصوصاً في الدّول النّامية.
الريال الرقمي: تجربة سعودية في العملات الرقمية
في إطار توجّه المملكة العربيّة السّعوديّة نحو تحقيق أهداف رؤية 2030، وبغية تعزيز التحول الرقمي وملاحقة التّطوّرات الماليّة العالميّة، بدأت السّعوديّة بدراسةٍ واسعةٍ لإمكانيّة إطلاق الرّيال الرّقميّ كصيغةٍ وطنيّةٍ للعملات الرقمية الحكومية. تستهدف هٰذه المبادرة تطوير النّظام الماليّ وتحويل البنية التّحتيّة الماليّة لتوافق مفاهيم الرّقمنة والاستدامة. ويعتبر البنك المركزيّ السّعوديّ الجهة الرّئيسة القائمة على تنفيذ هٰذا المشروع، حيث يعمل على دراسة التّقنيّات المناسبة، وتجربة نماذج أوّليّةٍ في بيئةٍ تجريبيّةٍ مراقبةٍ.
ويهدف الريال الرقمي إلى تخفيف الاعتماد على النّقد الورقيّ، وتعزيز الشّفّافيّة الماليّة، وتقوية أدوات الرّقابة لمكافحة أوجه الفساد والتّلاعب الماليّ، إلى جانب دعم الشّمول الماليّ وتوسيع وصول الخدمات الماليّة الرّقميّة لفئاتٍ أكثر من السّكّان.
ختاماً
تشكّل العملات الرقمية الحكومية نقطة تحوّلٍ محوريّةً في مسار التّطوّر الماليّ العالميّ. وفيما توفّره من كفاءةٍ وأمنٍ وشفّافيّةٍ، يظلّ نجاحها مرتبطاً بقدرة الدّول على معالجة التّحدّيات التّقنيّة والأخلاقيّة والاقتصاديّة. ويبدو أنّ الانتقال من النّقد الورقيّ إلى CBDC سيكون تطوّراً تدريجيّاً، يحتاج إلى رؤيةٍ متوازنةٍ وتعاونٍ دوليٍّ وثيقٍ.
شاهد أيضاً: العملات الرقمية في الخليج: بين الحذر والانفتاح!
-
الأسئلة الشائعة
- ما الفرق بين العملات الرقمية الحكومية والعملات المشفرة؟ العملات الرقمية الحكومية تصدرها البنوك المركزيّة، أمّا العملات المشفرة فهي لامركزيّةٌ ولا تخضع لأيّ جهةٍ رسميّةٍ.
- هل يمكن استخدام العملة الرقمية الحكومية بدون إنترنت؟ بعض النّماذج التّقنيّة تسمح بالاستخدام دون اتّصالٍ، لكن معظمها يتطلّب الاتّصال بالإنترنت للتّحقّق والمعالجة.
- ما تأثير العملة الرقمية على خصوصية المستخدمين؟ يمكن تتبع المعاملات بسهولةٍ، ما يثير مخاوف بشأن الخصوصيّة ما لم تُوضع ضوابط صارمة.