هل العملات الرقمية حلال أم حرام؟ جدل شرعي متجدد
بين فتاوى التّحريم ومواقف التّيسير، تتباين الآراء الفقهيّة حول شرعية العملات الرقمية ودورها في الاقتصاد الإسلاميّ الحديث

يشهد العالم في السّنوات الأخيرة تسارعاً لافتاً في تبنّي العملات الرقمية (Cryptocurrencies)، وذٰلك في ظلّ التّطوّر الـمتسارع للتّقنيات الماليّة، وازدياد القبول الـعالميّ لهٰذه الوسائل الـمستحدثة في التّبادل والتّخزين والاستثمار. ووسط هٰذا التّحوّل العميق، برز سؤالٌ فقهيٌّ ملحٌّ يُطرح على طاولة النّقاش: هل العملات الرقمية حلال أم حرام؟ [1]
تستمدّ هٰذه الإشكاليّة أهمّيّتها البالغة من تقاطعها مع أصول الشّريعة الإسلاميّة في باب المعاملات الماليّة، لا سيما في مسائل تتعلّق بمفاهيم النّقود، والملكيّة، وحفظ القيمة. وتزداد المسألة دقّةً مع غياب الأطر التّنظيميّة الواضحة في بعض الدّول، وتنوّع أشكال الـمشاريع الرّقميّة، ومدى التزامها بـضوابط العقود الشّرعيّة.
تعريف العملات الرقمية
تعدّ العملات الرقمية نوعاً جديداً من الأصول الّتي تتّسم باللّامركزيّة، حيث لا تخضع لسيطرة أيّ جهةٍ حكوميّةٍ أو مصرفٍ مركزيٍّ، بل تصدر وتدار عن طريق شبكاتٍ رقميّةٍ موزّعةٍ تسمّى سلاسل الكتل (Blockchain). وفي هٰذه السّلاسل، تُسجّل جميع المعاملات بنظامٍ شفّافٍ وآمنٍ، ممّا يضفي عليها درجةً عاليةً من المصداقيّة والثّقة.
ويعتبر "بتكوين" (Bitcoin) أوّل عملةٍ رقميّةٍ حقيقيّةٍ تُطلق في العالم، وذٰلك خلال عام 2009. وبعد ذٰلك، شهد السّوق ظهور آلاف العملات الجديدة، مثل: "إيثريوم" (Ethereum)، و"سولانا" (Solana)، وغيرهما من المشاريع الّتي تسعى لتحقيق أهدافٍ تفوق مجرّد التّبادل الماليّ، وتشمل مجالاتٍ كالعقود الذّكيّة، والتّطبيقات المركّبة، والهويّة الرّقميّة.
هل العملات الرقمية حلال أم حرام؟
العملات الرقمية حلالٌ إذا استُخدمت بشكلٍ مشروعٍ، مثل التّبادل أو الاستثمار دون وجود غررٍ كبيرٍ أو ربا، وكانت خاضعةً لضوابط قانونيّةً وشرعيّةً واضحةً. أمّا إذا كانت تتضمن المقامرة أو التّلاعب أو الغرر الفاحش، فإنّها تصبح حراماً.
خلفية الجدل الفقهي حول شرعية العملات الرقمية
بدأ النّقاش الفقهيّ حول مشروعيّة العملات الرقمية بقوّةٍ في الأوساط العلميّة والدّعويّة بعد صدور فتوى دار الإفتاء الـمصريّة في شهر ديسمبر من عام 2017، والّتي قضت بتحريم تداول عملة بتكوين، إذ استندت الفتوى إلى جملةٍ من الأدلّة الشرعيّة، وجاء التّعليل مركّزاً على ثلاثة أسسٍ:
- وجود الغرر الشّديد (وهو الجهالة والمخاطرة الفاحشة في أصل المعاملة).
- اشتباه العملات بخصائص تشبه القمار أو الـميسر، حيث تحقّق الأرباح عبر تقلباتٍ سريعةٍ لا تستند إلى أصولٍ حقيقيّة.
- احتمال تضييع المال في نظامٍ يفتقر إلى الغطاء العينيّ أو الرّقابيّ، ويتيح الخسارة المفاجئة دون حجّةٍ.
وقد أكّدت الدّار أنّ مثل هٰذه العملات لا تخضع لضوابط سوقٍ عادلةٍ، ممّا يعرّض الـمتعاملين فيها للغشّ والخداع وتقلّب الأسعار دون ضمانٍ شرعيٍّ.
وفي عام 2019، صدر قرار المجمع الفقهيّ الدّوليّ التّابع لمنظّمة التّعاون الإسلاميّ (IIFA)، تحت الرّقم 237 (8/24) في دبي، والّذي قدّم مقاربةً أكثر توسّعاً للمسألة، معترفاً بوجود نوعين رئيسيّين من العملات الرقمية:
- نوعٌ مدعومٌ بأصولٍ حقيقيّةٍ أو بضماناتٍ نظاميّةٍ.
- ونوعٌ آخر لامركزيٌّ مستقلٌّ يفتقر إلى الرّقابة ولا يقوم على تغطيةٍ عينيّةٍ.
تطوّر الفتوى في حكم العملات الرقمية
دعا المجمّع إلى ضرورة وضع أطرٍ تشريعيّةٍ ضابطةٍ للنّوع الثاني، مع التّأكيد على دراسته دراسةً اجتهاديّةً عميقةً، تأخذ في الاعتبار وظيفته الماليّة وأثره في الـمعاملات الواقعيّة. وفي الجانب المقابل، برزت فتاوى فقهيّةٌ أخرى اتّسمت بشيءٍ من التّيسير والانفتاح على طبيعة الابتكار الرّقميّ. فقد نشر مجمّع الفقه الإسلاميّ الهنديّ في عام 2023 ورقةً علميّةً رأى فيها أنّ العملات الرقمية ليست محرّمةً لذاتها، وإنّما يتوقّف حكمها على تحقّق المصلحة وانتفاء الضّرر والغرر الفاحش. كما بيّن أنّ استخدامها كوسيلة تبادلٍ أو تحويلٍ ماليٍّ محكمٍ قد يكون جائزاً شرعاً إذا استوفت شروط العقود الصّحيحة.
وبالمثل، أعلن مجلس الشّريعة في ماليزيا في شهر يوليو 2024 أنّ الاستثمار في العملات الرقمية الّتي تستهدف أصولاً ماليّةً مشروعةً -كالعقارات أو الذّهب أو السّلع الحقيقيّة- قد يكون جائزاً ضمن ضوابط محكمةٍ، شريطة التّأكّد من مشروعيّة الأصل المرتبط بها، وانضباط طريقة التّداول. ولكن، شدّد المجلس على أنّ التّجارة المضاربيّة المحضة في العملات النّاشئة أو المجهولة أو المستخدمة لأغراضٍ مشبوهة، تبقى محلّ نقاشٍ شرعيٍّ وموطن ريبةٍ، خاصّةً إذا خلت من المقاصد الاقتصاديّة السّليمة. [2]
حجج تحريم العملات الرقمية
يستند من يُحرِّمون العملات الرقمية إلى 3 حججٍ رئيسيّةٍ، تتمحور حول الخلل الجوهريّ في بنيتها الماليّة، وما يكتنفها من إشكالاتٍ شرعيّةٍ وأخلاقيّةٍ وضغوطٍ تُثير الرّيبة في مشروعيتها:
غياب الأصل التقابلي
يرى أصحاب هذا الموقف أنّ العملات الرقمية، كبيتكوين وغيرها، تفتقر إلى سندٍ عينيٍّ ملموسٍ يضبط قيمتها وفق معيارٍ شرعيٍّ راسخٍ، بخلاف الذّهب أو النّقود المرتبطة بسلعٍ واقعيّةٍ. وتُشير بعض أبحاث دار الإفتاء المصريّة إلى أنّ هذا الفراغ في التّغطية الواقعيّة يُدرجها ضمن النّقد المعوّم، الّذي لا يستند إلى مرجعيّةٍ ماديّةٍ أو أسسٍ اقتصاديّةٍ مستقرةٍ، ممّا قد يفضي -في نظرهم- إلى اضطراب النّظام الماليّ وإلحاق الضّرر بالفئات الأضعف في المجتمع، الّتي لا تحتمل تقلّبات الأسواق غير المنضبطة.
الغرر والتقليب المفرط في السعر
تتميّز أسواق العملات الرقمية بتقلباتٍ سعريّةٍ شديدةٍ، حيث يمكن أن تفقد بعض الأصول أكثر من 50% من قيمتها خلال أيّامٍ قلائل، دون أن يكون هناك سببٌ اقتصاديٌّ جوهريٌّ يبرّر ذٰلك. وقد اعتبر مجلس العلماء في إندونيسيا -الّذي أفتى بتحريم تداول العملات الرقمية في عام 2021- أنّ هٰذه التّقلبات تدخل المعاملة في دائرة القمار (الميسر)؛ لأنّ الرّبح والخسارة فيها يقومان على عنصر المخاطرة البحتة، دون ارتباطٍ حقيقيٍّ بالإنتاج أو النّشاط الاقتصاديّ الواقعيّ. كما أشاروا إلى أنّ البيع والشّراء في سياق هٰذه التّذبذبات يفضي إلى استغلال الجهّال من قبل المضاربين، ويفضي إلى التّغرير المحرّم شرعاً.
شبهة استعمالها في غسل الأموال والتمويل المحرم
تُثير العملات الرقمية، وخاصّةً بيتكوين، قلقاً متزايداً في الأوساط الشرعيّة والأمنيّة؛ لأنّها تستعمل في بعض الأحيان كوسيلةٍ لتمويل أنشطةٍ غير قانونيّةٍ أو لغسل الأموال أو التّهرّب من العقوبات الدّوليّة. وتشير دراسةٌ صادرةٌ عن معهد كينغز كوليدج لدراسة الأمن في عام 2024 إلى أنّ أكثر من 21% من الصفقات الّتي أجريت عبر بيتكوين كانت ضمن شبكاتٍ تهدف إلى التّحايل على العقوبات الاقتصاديّة، أو التّمويل غير الشّرعيّ، وهو ما يشكّل خرقاً واضحاً لمنظومة إغلاق المنافذ الحرام الّتي تقرّها الشّريعة.
ويزيد من خطورة هٰذا الجانب غياب الرّقابة المركزيّة، وإمكانيّة تداول العملات الرقمية في سريّةٍ تامّةٍ، ممّا يتيح استخدامها في سلاسل إجراميّةٍ عابرةٍ للحدود، ويجعل من الصّعب تتبّع الأموال أو إخضاعها للرّقابة الـمحاسبيّة والضّريبيّة.
حجج شرعية العملات الرقمية
في المقابل، يستند القائلون بجواز استخدام العملات الرقمية إلى جملةٍ من الحجج الشّرعيّة والعقليّة، تعزّزها دراساتٌ ميدانيّةٌ وتجارب ماليّةٌ واقعيّةٌ، يمكن تلخيص أبرزها فيما يلي:
الوظيفة المالية ومبدأ الإباحة الأصلية
يقرّ العلماء الّذين يبيحون العملات الرقمية بأنّ الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نصٌّ يحرّمها، وخصوصاً في باب المعاملات الماليّة الّتي تبنى على تحقيق المصلحة ودرء المفسدة. ويضيفون أنّ العبرة في الحكم الشرعيّ ليست بذات الوسيلة، بل بالغرض المقصود والمآل المتحقّق؛ فإذا ثبت أنّ التّعامل بالعملات الرقمية يحقّق مصلحةً معتبرةً -مثل تخفيض كلفة التّحويلات أو تسريع إنجاز المعاملات- دون أن يفضي إلى ضررٍ راجحٍ أو يتضمّن غرراً فاحشاً أو ميسراً، فإنّ الجواز يتّجه بقوّةٍ.
وفي هٰذا السّياق، أظهرت أكاديميّة أبحاثٍ ماليّةٍ تابعةٌ لجامعة كامبريدج في دراسةٍ صادرةٍ عام 2025 أنّ 34% من مستخدمي العملات الرقمية في دول الـمهجر الإسلاميّة يستخدمونها في تحويلاتٍ شخصيّةٍ صغيرةٍ، ممّا يظهر فائدتها المباشرة في تخفيض التّكاليف وتيسير الدّفعات العابرة للحدود.
مبادئ الشفافية وتوثيق المعاملات
تعتمد العملات الرقمية على تقنيّة سلسلة الكتل (Blockchain)، وهي نظامٌ رقميٌّ لا مركزيٌّ يُتيح تسجيل جميع المعاملات في دفتر حساباتٍ عامٍّ، لا يمكن تزويره ولا التّلاعب فيه. ويعزّز هٰذا النّظام مبدأً مهمّاً في فقه الـمعاملات، وهو توثيق العقود وضمان شفافيّة الأطراف؛ فكلّ معاملةٍ مسجّلةٍ في الشّبكة قابلةٌ للتّحقّق والرّجوع إليها، ممّا يقوّي عنصر الأمان والعدالة بين المتعاقدين.
وفي دراسةٍ منشورةٍ عام 2025 في مجلة Journal of Business & Economics، وجد الباحثون أنّ استخدام تقنيّة سلسلة الكتل يساهم في خفض الغرر في تبادل الأصول الرّقميّة بنسبةٍ تصل إلى 27%، مقارنةً بالأسواق النقديّة التّقليديّة.
وفي بحثٍ علميٍّ آخر نُشر عبر منصّة arXiv في يناير 2025، طوّر الباحثون نموذجاً لتصنيف الأصول الرّقميّة حسب مسار تكوين القيمة، وأكّدوا أنّ عملة إيثيريوم -نظراً لقدرتها على تشغيل عقودٍ ذكيّةٍ قابلةٍ للتّنفيذ والتّوثيق الآليّ- تقارب في وظيفتها شروط البيع الشرعيّ الّذي يشترط فيه الرّضا، والتّوثيق، وتحقّق المبيع. [3]
مواقف المجالس والهيئات الشرعية من العملات الرقمية
تتباين مواقف المجالس والهيئات الشّرعيّة حول العملات الرقمية، إلّا أنّها تشكّل مرجعاً مهمّاً في تقييم الموقف الشّرعيّ وضبط التّطوّر الماليّ في هٰذا الـمجال.
موقف هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية (AAOIFI)
في شهر ديسمبر 2024، أصدرت هيئة المحاسبة والمراجعة للـمؤسّسات الماليّة الإسلاميّة مشروع معيارٍ شرعيٍّ يستهدف وضع قواعد تفصيليّةٍ لتصنيف العملات الرقمية وتنظيم تداولها وتشغيلها في أطرٍ متوافقةٍ مع الشّريعة، إلّا أنّ هٰذا المعيار لم يعتمد نهائيّاً حتّى كتابة هٰذه السّطور، وما زال في طور المراجعة والموافقة النّهائيّة من قبل المختصّين. [4]
موقف دار الإفتاء الأردنية
في شهر مارس 2025، أعلنت دار الإفتاء الأردنيّة أنّ استخدام العملات الرقمية في إطارٍ مشروطٍ وفق ضوابط محدّدةٍ قد يكون جائزاً، بشرط أن تكون هٰذه العملات مدعومةً بأصولٍ حقيقيّةٍ ومحميّةٍ، كأن تكون مرتبطةً بالذّهب أو السّلع المحسوسة. وأكّدت الفتوى على ضرورة خضوع هٰذه المنصّات لرقابة المصارف المركزيّة وتوفّر الـحوكمة الشّرعيّة فيها.
موقف منظمة التعاون الإسلامي
على مستوى الدّول الإسلاميّة، تقود منظّمة التّعاون الإسلاميّ جهوداً لإنشاء معيارٍ توافقيٍّ لتنظيم تعامل بورصات العملات الرقمية في الدّول الأعضاء، بحيث يوفّق بين: التّطوّر التّقنيّ والماليّ، والضّوابط الفقهيّة المحكمة، وضمان مكافحة غسل الأموال والمنتجات المخالفة لمقاصد الشّريعة. ومن المتوقّع أن يساهم هٰذا المعيار المقترح في تقريب الفتاوى وضبط المبادرات الماليّة الرّقميّة وفق إطارٍ شرعيٍّ مشتركٍ بين الدّول الإسلاميّة.
أمثلة على بعض العملات الرقمية الحلال
تعدّ بعض الـعملات الرقمية جائزةً شرعاً، باعتبارها توفّي شروط الـمبادلة الـمشروعة، وتخلو من الغرر والمقامرة والرّبا، ومن أبرز هٰذه الـعملات:
- عملة بتكوين (Bitcoin – BTC): لا تعدّ حراماً في ذاتها، وقد أقرّ مجمّع الفقه الإسلاميّ الهنديّ في ورقةٍ نشرها عام 2023، أنّها جائزةٌ شرعاً إذا استُخدمت كوسيلة تبادلٍ، وخلت من الغرر الفاحش أو المضاربة الـمجرّدة.
- عملة إكس – إيه – يو – تي (XAUt): عملةٌ رقميّةٌ تتمّ مقابلتها بغرامٍ واحدٍ من الذّهب الفعليّ، وتوفّرها شركاتٌ مرخصةٌ، مثل Tether Gold، وهي جائزةٌ لأنّها مدعومةٌ بأصلٍ محسوسٍ، ويتمّ فيها التّقابض والتّملّك بشروط العقود الصّحيحة.
- عملة وان جرام (OneGram – OGC): أُطلقت في دبي، وكلّ وحدةٍ منها مدعومةٌ بغرامٍ واحدٍ من الذّهب المخزّن فعلاً، وهو مشروعٌ خضع لرقابةٍ شرعيّةٍ وحصل على مصادقةٍ فقهيّةٍ من هيئاتٍ في البحرين.
- عملة هلال شين (HalalChain – HLC): مشروعٌ إماراتيٌّ يوظّف البلوك تشين في تتبّع سلاسل الإنتاج الغذائيّ الـحلال، ويعتبر مباحاً لأنّه يقدّم خدماتٍ في إطارٍ شرعيٍّ، دون شبهاتٍ في نشاطه الماليّ.
- عملة إسلامك كوين (Islamic Coin – ISLM): عملةٌ جديدةٌ تسعى لبناء نظامٍ رقميٍّ إسلاميٍّ، وتخضع لمراقبةٍ شرعيّةٍ مستمرّةٍ، وتستوفي مبادئ التّمويل الإسلاميّ، دون فوائد أو رباً أو مضارباتٍ محظورةٍ.
كيفية شراء العملات الرقمية الحلال
لشراء العملات الرقمية بصورةٍ حلال، يجب اتّباع خطواتٍ دقيقةٍ تضمن سلامة المعاملة ومطابقتها للضّوابط الشّرعيّة، ألا وهي:
- يجب التّأكّد من مشروعيّة العملة نفسها، بأن تكون مرتبطةً بأصلٍ محسوسٍ كالعقار، أو الذّهب، أو السّلع، أو تدعم نظاماً تقنيّاً ذا وظيفةٍ واضحةٍ، ويشترط أن تكون العملة متداولةً في أسواقٍ مرخّصةٍ، وألّا تكون خاضعةً للتّغرير أو الغرور الفاحش.
- يجب الخروج من نظام المضاربة المحضة، وذٰلك بعدم شراء العملات لغرض الرّبح السّريع فقط، بل لقصد الاحتفاظ أو التّبادل الـمشروع. كما يفضّل تجنّب المشاريع المجهولة أو الّتي تفتقد للوضوح التّقنيّ والماليّ.
- ينبغي التّعامل مع منصّاتٍ رقميّةٍ مرخّصةٍ في بلادٍ تخضع لرقابةٍ قانونيّةٍ وماليّةٍ شفّافةٍ، كالمنصّات المعتمدة في الإمارات، أو البحرين، أو سنغافورة. كما يجب أن توفّر هٰذه الـمنصّات خيارات التّقابض الفعليّ، أي أن تنتقل الملكيّة فعلاً بعد الدّفع، وألّا يكون التّعامل ورقيّاً أو صوريّاً.
- وأخيراً، ينبغي للمستثمر أن يستفتي ذوي الخبرة في الفقه والاقتصاد، للتّأكّد من مشروعيّة كلّ عملةٍ وسلوكه الـماليّ؛ فالحلّ والحرمة في هٰذا المجال ليسا مطلقين، بل يرتبطان بالسّياق ونوع العقد ونيّة الاستخدام.
المعايير الشرعية للاستثمار في العملات الرقمية
في ظلّ تعدّد الآراء الفقهيّة، وتسارع التّغييرات في عالم المال الرّقميّ، يجب على المستثمر المسلم أن يحافظ على توازنه بين روح الشّريعة وحاجات المعاصرة، وذٰلك من خلال الالتزام بجملةٍ من التّوصيات:
- التّأكّد من هويّة المشروع ووضوح أصوله المدعومة: يجب عليك أن تتثبّت من هويّة المشروع الرّقميّ الّذي تنوي الاستثمار فيه، وأن تتأكّد من وجود أصولٍ محسوسةٍ ومعلومةٍ تدعم قيمته، كأن يكون مرتبطاً بذهبٍ، أو بعقاراتٍ، أو بأصولٍ تجاريّةٍ حقيقيّةٍ؛ فهٰذا يساعد على تجنّب الغرر، ويقرّب المعاملة من التّوافق الفقهيّ.
- تطبيق مبدأ التّحوّط الماليّ: ينبغي أن تضع لنفسك سقفاً استثماريّاً محترساً، بحيث لا تتجاوز 5% من محفظتك الماليّة في أصولٍ رقميّةٍ؛ فهٰذه النّسبة تساعد على تقليل الـمخاطر، وتجنّب المضاربة المفرطة.
- استخدام منصّاتٍ مرخّصةٍ ومراقبةٍ: عند الشّروع في التّداول، احرص على اختيار منصّاتٍ مرخّصةٍ وخاضعةٍ لرقابةٍ شرعيّةٍ وماليّةٍ. ومن ذٰلك: الـمصارف الإسلاميّة الّتي توفّر خدمات تداولٍ للعملات الرقمية وفق معايير المجمّع الـفقهي الدّوليّ (IIFA)، وتأكّد أيضاً من تطبيق إجراءات "اعرف عميلك" (KYC)، ممّا يساعد على منع التّزوير وغسل الأموال.
- تنظيم المعاملات وتوثيقها شرعاً: في حال اخترت التّعامل مع عملةٍ لامركزيّةٍ، وقد تكون أكثر عرضةً للتّقلّب والمجهوليّة، فاحرص على أن تجري المعاملة ضمن عقد مبادلةٍ شرعيٍّ وموثّقٍ. ويفضّل أن يتضمّن العقد نصّاً صريحاً بشرط التّقابض الفوريّ، كما اشترطته كثيرٌ من الفتاوى المعتمدة، وذٰلك للتّقيّد بضوابط البيع الشّرعيّ وتجنّب الخلل الفقهيّ.
الخلاصة
تبقى العملات الرقمية ظاهرةً ماليّةً وتقنيّةً مستجدّةً لا سابق لها في التّاريخ الماليّ المعاصر، وهي تطرح إشكاليّاتٍ جديدةً على موائد الفقه والاجتهاد، وتتشكّل أحكامها الشّرعيّة حسب وقائع الاستخدام، وقدرة المشرّع المعاصر على ضبط المنتج الرّقميّ وإدراك طبيعته. ويظهر الإطار الـفقهيّ المعاصر تبايناً في الـمواقف؛ فبين من يرى التّحريم المطلق لغياب الضّوابط، وبين من يرى الإباحة المقيّدة بالشّروط والمقاصد، تبقى المعرفة المتجدّدة والاجتهاد الجماعيّ أداتين حاسمتين لبناء رؤيةٍ شرعيّةٍ ناضجةٍ.
وفي ضوء نموّ البحوث، وتطوّر المعياريّة الشّرعيّة، إلى جانب ما تقدّمه التّقنية الحديثة من أدواتٍ للتّوثيق والشّفافيّة، يتعزّز الأمل في انبثاق حلولٍ إسلاميّةٍ صريحةٍ وراقيةٍ، قادرةٍ على المواءمة بين متطلّبات الشّرع، وقدرة المبتكر الرّقميّ على التّوسيع والـتّفعيل. وعلى المستثمر المسلم أن يبقى مطّلعاً ومتفقّهاً ومتأنّياً، يوازن في خطاه بين فرص الرّبح وضوابط الحلال، ويتّخذ مواقفه في ضوء الفتاوى المعتمدة، والمقرّرات المحدّثة للمجالس الفقهيّة.
-
الأسئلة الشائعة
- لماذا يحرّم بعض العلماء التعامل بالعملات الرقمية؟ يحرّم بعض العلماء التعامل بالعملات الرقمية؛ لأنّها تفتقر إلى أصلٍ ماديٍّ ملموسٍ، وتشهد تقلّباتٍ حادّةٍ في السّعر، كما تُستخدم أحياناً في غسل الأموال وتمويل أنشطةٍ غير قانونيّةٍ، ما يدخلها في باب الغرر والميسر.
- هل يمكن استخدام العملات الرقمية في البنوك الإسلامية؟ نعم يمكن استخدام العملات الرقمية في البنوك الإسلامية، بشرط أن توظّف ضمن عقودٍ واضحةٍ ومشروعةٍ مثل المرابحة، وأن تُستخدم تقنياتٌ موثوقةٌ مثل العقود الذّكيّة لضمان التّوثيق والشّفافيّة.
- ما الفرق بين العملات الرقمية المركزية واللامركزية من حيث الحكم الشرعي؟ تُعامل العملات المركزية المدعومة من جهاتٍ رسميّةٍ كالنقود التّقليديّة، وقد تكون جائزةً بشروطٍ، أمّا اللامركزية فتخضع للتّفصيل في الحكم، حسب شفافيتها ومآل استخدامها.
- ما النصيحة الأهم للمستثمر المسلم قبل دخول سوق العملات الرقمية؟ يجب على المستثمر المسلم التّأكد من مشروعيّة مشروع الاستثمار في العملات الرقمية، وتجنّب المخاطرة الزّائدة، والاستثمار بنسبةٍ محدودةٍ من رأس المال عبر منصّاتٍ مرخصةٍ وتحت رقابةٍ شرعيّةٍ وماليّةٍ.