تصاعد قيمة الروابط الإنسانية: هل يصبح الاتصال البشري ميزة المستقبل؟
حين تتقدّم الأتمتة والذكاء الاصطناعي إلى صدارة المشهد، تبرز الحاجة إلى إعادة بناء الرّوابط البشريّة باعتبارها العنصر الوحيد القادر على تعزيز الثّقة والانتماء ودفع الابتكار الحقيقيّ
مع توسّع الذكاء الاصطناعي والأتمتة والروبوتات في كلّ جانب من جوانب حياتنا، نعيش من جديد صدى تلك النشوة المألوفة -وتالياً «صداع» ما بعد النشو- التي ترافق بزوغ «عالم جديد شجاع». الوعود الجريئة تتكاثر، والقيم السوقيّة ترتفع مدفوعةً بموجات ابتكار مذهلة. لقد تبدّلت أدواتنا اليومية جذرياً؛ ومن المرجّح أنّنا لن نكون بعد اليوم من دون مساعدٍ فائق الذكاء، تماماً كما لا نستغني عن الإنترنت أو الهواتف الذكية. وفي خضمّ هذه الموجة التقنية، يحدث أمر أكثر عمقاً: قيمة الاتصال الإنساني آخذة في الازدياد.
ومن السهل الاعتقاد بأنّ المستقبل سيُحسم لصالح الجهة التي تبني «أذكى» نموذج. وبالتّأكيد سيكون هناك فائزون، لكن الحقيقة أنّ النماذج الكبرى بدأت تتقارب في المستوى، وتكاليف تطويرها تنخفض، والحديث عن احتمال تشكّل «فقاعة» يتزايد يوماً بعد يوم. ولكن، سيكون الفارق الحاسم بين الجميع فيما لا تستطيع الآلات استنساخه: كيفية بناء الثقة، والانتماء، والمعنى المشترك.
الكلفة القابلة للقياس للانفصال البشري
في عام 2023، أعلن الجرّاح العام للولايات المتحدة، فيفيك مورثي، أنّ الوحدة والعزلة تمثّلان «وباءً صحياً». وربط تقريره بين الانفصال الاجتماعي وارتفاع خطر الإصابة بأمراض القلب بنسبة 29%، والسكتة الدماغية بنسبة 32%، وتأثيرٍ على معدّلات الوفيات يعادل تدخين 15 سيجارة يومياً (وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأمريكية، 2023).
وتتكرّر هذه النتائج نفسها داخل المنظمات؛ فقد تتبّعت مؤسسة غالوب لسنوات سؤالاً بسيطاً في ظاهره، عميقاً في أثره: «هل لديك صديقٌ مقرّب في العمل؟»
أولئك الذين أجابوا بـ«نعم» كانوا أكثر التزاماً وولاءً وإنتاجية من الذين أجابوا بـ«لا».
ورغم ذلك، تتراجع الطبيعة العلائقيّة في العديد من أماكن العمل؛ فقد أظهرت أبحاث أصدرتها مايكروسوفت ونُشرت في مجلة Nature Human Behaviour أنّ العمل عن بُعد يُضعف «الروابط الضعيفة» -أي العلاقات العرضية بين الفرق- وهي العلاقات التي تغذّي الإبداع والابتكار (يانغ وآخرون، 2022).
النتيجة: أدوات التّعاون تربطنا وظيفياً، لكن القرب الجسدي لا يزال الوقود الحقيقي للثقة والعفوية.
العصر الذهبي الجديد لـ «الفضاءات الثالثة»
ابتكر عالم الاجتماع راي أولدينبرغ مصطلح «الفضاء الثالث» لوصف الأماكن التي تقع خارج المنزل والعمل وتشكل ركائز للحياة المجتمعية: المقاهي، المكتبات، الحلاقون، النوادي.
وإن تجوّلت مؤخراً في أيّ حيّ صاعد، فستلاحظ أنّ هذه الفضاءات تشهد عودة لافتة؛ فالمكتبات المستقلة تنمو باضطراد منذ عام 2020، مع مئات الافتتاحات عبر الولايات المتحدة (جمعية بائعي الكتب الأمريكيين، 2024).
وأصبحت رياضة البادل الأسرع نمواً في البلاد، مع أكثر من 16 ألف ملعب وارتفاع سنوي في المشاركة بلغ 51% (رابطة صناعة الرياضة واللياقة البدنية، 2024).
وتجاوز عدد صالات التسلق 800 موقع، فيما تخطّى عدد أعضاء نوادي العضوية مثل «سوهو هاوس» 270 ألف عضو حول العالم (مجلة أعمال التسلق، 2024؛ تقرير سوهو هاوس للربع الثاني 2025).
وقد دخل قطاع التجزئة أيضاً على هذا المسار؛ إذ باتت علامات تجارية عديدة تضيف مقاهي وردهات ومطاعم داخل متاجرها، محوّلةً مساحاتها من فضاءاتٍ معاملاتية بحتة إلى «نوادٍ» ذات قيمة اجتماعية. حتى «ستاربكس» -الّتي كانت يوماً المرجع الأبرز لفكرة «الفضاء الثالث»- تعود اليوم إلى هذا الجوهر: تحديث التصاميم، إعادة تدريب العاملين، وإعادة توجيه العلامة نحو المجتمع والحضور البشري المشترك.
والرسالة واضحة: الناس بحاجة إلى إطار يربط المعلومات ببعضها ليتمكنوا من فهم الصورة كاملة. فالفضاءات التي تمزج الارتباط الإنساني بالطقوس والملمس والحكاية تزدهر في زمنٍ تُصمَّم فيه كل الأشياء لتكون أكثر رقمنة وتحسيناً.
الاتصال يعزّز الأداء
يشعرنا الاتصال البشري بتحسّن، وهذا الشعور ذاته يدفعنا للأداء الأفضل؛ فقد كشفت دراسة شملت 308 آلاف شخص أنّ العلاقات الاجتماعية القوية تزيد احتمالات البقاء على قيد الحياة بنسبة 50% (هولت-لونستاد وآخرون، بلوس ميديسن، 2010). وعلى مستوى المجتمعات، أظهرت دراسة راج تشيتّي الشهيرة، التي حللت 21 مليار علاقة صداقة عبر فيسبوك، أنّ «الترابط الاقتصادي» -أي العلاقات بين أفراد من طبقات دخل مختلفة- هو أقوى مؤشر على الحراك الاجتماعي (تشيتّي وآخرون، نيتشر، 2022).
الخلاصة: الاتصال ليس نتيجة… بل هو سبب.
دليلٌ عملي للقادة
لتحويل الاتصال إلى قوّة، تحتاج إلى طقوس بسيطة ومتكرّرة.
داخل شركتك:
- ابتكر لحظات منخفضة التوتر للسرد والتعلّم: عروض قصيرة، لقاءات سيراً على الأقدام، جلسات «علّمني أداة».
- تتبّع «مؤشرات الجسور»: أول تعاون بين فرق، إرشاد جديد، مشاريع عابرة للأقسام.
- احمِ «ساعات التداخل»: أوقات يجتمع فيها الناس بلا جدول أعمال.
مع عملائك:
- استثمر في «وقت المكوث»، لا في «التحويل» فقط. فكلّما طال بقاء العميل، تعمّقت العلاقة.
- مكّن العاملين في الواجهة من العمل كـ«مضيفين» لا كمقدمي خدمة فقط. التذكّر والاهتمام أصولٌ للعلامة التجارية.
- اخلق لحظات «دهشة صغيرة» -ملاحظات مكتوبة بخط اليد، روائح خاصة، فنان محلي… هذه التفاصيل الصغيرة تولّد روايات تنتشر تلقائياً.
في مجتمعك:
- تعاون مع «الفضاءات الثالثة» المحلية: صالات الرياضة، نوادي الركض، المكتبات، مساحات العمل المشتركة.
- اجعل علامتك «تشارك» الثقافة بدلاً من الاكتفاء بالإعلان داخلها: فعاليات مشتركة، دعم طقوس محلية، فتح مواقع الشركة للمجتمع.
ولتعظيم الأثر، قم بقياسه: الزيارات المتكررة، متوسط وقت المكوث، العلاقات الجديدة… ثم اربطها بالاحتفاظ والإيرادات والرضا. فالارتباط الإنساني قابل للقياس… وللتحسين… وحتى للاستثمار.
صمّم للاتصال
تلك القواعد ذاتها التي تجعل الفضاء الماديّ جميلاً هي ما يحوّله أيضاً إلى فضاءٍ قادر على توليد الاتصال بين الناس؛ فسهولة الوصول، والإضاءة التي تراعي الإنسان، والسبب الدائم للعودة، كلها عناصر تفتح الباب أمام حضورٍ حيّ ومتجدّد. وفي جوّ كهذا، تتقدّم البرمجة الخفيفة المنتظمة على العروض الكبيرة المبهرة، لأنّها تبني عادةً لا انبهاراً عابراً. كما تتفوّق الضيافة على الأتمتة، لأنّ الدفء الإنساني لا يمكن استبداله، وتتفوّق الأصالة على الخوارزميات، لأنّ ما ينبض بالحقيقة يبقى أقدر على خلق معنى وعلاقة من أيّ نظامٍ مُصمَّم مسبقاً.
الخلاصة
في الوقت الذي تتقدّم فيه الأتمتة بخطوات واسعة وتتسلّل إلى أدقّ تفاصيل حياتنا، تظلّ القواعد التي تصنع فضاءً مادياً جميلاً هي نفسها التي تجعل منه فضاءً مولِّداً للاتصال الإنساني: سهولة الدخول، إضاءة دافئة تتّسق مع إيقاع البشر، وأسباب صغيرة ومستمرّة تُغري بالعودة. فالبرمجة الخفيفة المنتظمة تتفوّق على الإيماءات الضخمة، والضيافة الحقيقية تتقدّم على الأتمتة، والأصالة تبقى أعمق أثراً من أي خوارزمية.
ومع أنّ الآلة ستواصل التمدد، فإن الندرة الحقيقية في العقد المقبل ستكون الإنسانية. لذلك، ستزدهر الشركات التي تفسح مكاناً لما لا يمكن استبداله: التعاطف، والثقة، والشعور بالانتماء. فالاتصال -بكل ما يحمله من حضورٍ بشريّ- يظلّ في جوهره أكثر التقنيات تقدّماً بين أيدينا.
كُتب هذا المقال بقلم جيمس تشيستر، المؤسِّس والرئيس التنفيذي لشركة WVN، ونُشر في الأصل على موقع Inc.com.