تجربة Netflix في القيادة الأفقية: الثقة بدل السيطرة
حين تخلّت الإدارة عن هرم السّيطرة لتمنح الثّقة للعقول، أعادت Netflix تعريف القيادة بمنح الحرية المسؤولة وصنع بيئةٍ تزدهر فيها المبادرة والإبداع الجماعيّ
سعت القيادة الحديثة في العقود الأخيرة إلى إحداث تحوّلٍ جذريٍّ في فلسفتها الإداريّة، إذ انتقلت من النّمط الهرميّ القائم على السّيطرة الدّقيقة إلى نموذجٍ جديدٍ يعلي من شأن الثّقة والتّفويض والتّمكين. ومن بين التّجارب الّتي جسّدت هٰذا التّحوّل بوضوحٍ برزت القيادة الأفقيّة في نتفلكس، حيث اختارت الشّركة أن تبني بيئةً تقدّر الإبداع والمرونة وتستبدل ثقافة الأوامر بثقافة المسؤوليّة. ومع تزايد سرعة التّغيّرات في صناعة التّرفيه الرّقميّ، أدركت نتفلكس أنّ التّحكّم المفرط لم يعد مجدياً، فانتقلت إلى قيادةٍ تمنح الصّلاحيّات للموظّفين وتضع الثّقة أساساً للعلاقات داخل المؤسّسة، لتنشئ بذٰلك نموذجاً عمليّاً يوازن بين الحرّيّة والانضباط.
ما المقصود بالقيادة الأفقية في نتفلكس؟
يقوم مفهوم القيادة الأفقيّة في نتفلكس على مبدإٍ بسيطٍ وعميقٍ في الوقت ذاته، وهو أن ينفّذ القائد سلطته لا عبر إصدار الأوامر أو فرض التّوجيهات من الأعلى، بل يخلق بيئةً من الثّقة تمكّن الأفراد من اتّخاذ قراراتهم ضمن الإطار الاستراتيجيّ العامّ؛ فلا تدار الشّركة من قمّة الهرم فقط، بل من تفاعل العقول داخل كلّ فريقٍ. وقد أوضحت نتفلكس فلسفتها بعبارةٍ دقيقةٍ أصبحت شعاراً لثقافتها: «تقديم السّياق لا السّيطرة»، أي أن يوفّر القائد المعلومات والظّروف الّتي تساعد الفريق على التّفكير السّليم واتّخاذ القرار المسؤول بدل أن يملي عليهم تفاصيل الأعمال.
وبذٰلك تحوّلت العلاقة بين القيادة والفرق من علاقة أمرٍ وطاعةٍ إلى علاقة شراكةٍ وتكاملٍ؛ فيقدّم القائد الرّؤية والإطار العامّ، بينما يتولّى الفريق التّنفيذ والإبداع ضمن مساحةٍ من الحرّيّة الواعية والمسؤوليّة المشتركة. ومن خلال هٰذا التّوازن بين الثّقة والمساءلة، نجحت نتفلكس في بناء منظومةٍ تشرك جميع الموظّفين في صناعة القرار دون أن تفقد الانسجام التّنظيميّ أو وضوح الاتّجاه. [1]
لماذا اختارت نتفلكس هذا النموذج؟
اختارت نتفلكس هٰذا النّموذج القياديّ بعد أن أدركت أنّ بيئة العمل الحديثة، وخصوصاً في قطاع التّرفيه الرّقميّ، تحتاج إلى سرعةٍ في الابتكار واستقلاليّةٍ في اتّخاذ القرار أكثر من حاجتها إلى مراقبةٍ صارمةٍ أو هرمٍ إداريٍّ جامدٍ. فحين لاحظت الإدارة أنّ الأساليب القديمة المبنيّة على التّسلسل والموافقات تبطئ المبادرات وتقتل روح المغامرة، قرّرت أن تعيد تعريف القيادة داخل مؤسّستها من الجذر. ولأنّ النّجاح في صناعة المحتوى يتطلّب تفاعلاً فوريّاً مع الجمهور والمنافسين، اختارت نتفلكس أن تمنح موظّفيها الحرّيّة الكاملة في التّجربة واتّخاذ القرارات اليوميّة دون انتظار تعليماتٍ مركزيّةٍ متكرّرةٍ.
اعتمدت الشّركة في ذٰلك على مبدإ كثافة المواهب (Talent Density)، والّذي يعني أن تبني المؤسّسة فريقاً صغيراً من الأفراد ذوي الأداء العالي بدلاً من فريقٍ كبيرٍ يفتقر إلى الكفاءة. فكلّ موظّفٍ داخل نتفلكس ينتقى بعنايةٍ فائقةٍ ليكون قادراً على التّفكير المستقلّ وتحمّل المسؤوليّة الكاملة عن قراراته. وبذٰلك، تتحقّق الثّقة تلقائيّاً لأنّ جميع العناصر تمتلك مستوى عالياً من النّضج المهنيّ والمعرفة بالسّياق.
ثمّ تبنّت نتفلكس مبدأ الحرّيّة مع المسؤوليّة (Freedom and Responsibility)، باعتباره حجر الأساس في ثقافة الشّركة. ويقوم هٰذا المبدأ على الإيمان بأنّ الأفراد النّاضجين يتّخذون قراراتٍ سليمةً حين تتاح لهم المعلومات الكاملة والسّياق الواضح. ولهٰذا، لم يعد المدير في نتفلكس يمارس دور الموجّه الآمر، بل أصبح صانعاً للرّؤية ومحدّداً للإطار العامّ الّذي يتحرّك فيه الفريق بحرّيّةٍ مدروسةٍ. وقد جعل هٰذا التّحوّل الثّقة بديلاً عمليّاً للسّيطرة، فحوّل بيئة العمل إلى مساحةٍ مفتوحةٍ للاجتهاد والإبداع والمخاطرة الواعية.
وإلى جانب ذٰلك، أدركت نتفلكس أنّ هٰذا النّموذج لا يخدم فقط الابتكار الدّاخليّ، بل يسهم أيضاً في جذب الكفاءات المتميّزة الّتي تبحث عن بيئاتٍ تقدّر الاستقلاليّة وتكافئ النّتائج لا الالتزام الشّكليّ بالإجراءات. وهٰكذا، لم يكن اعتماد القيادة الأفقيّة قراراً تنظيميّاً فحسب، بل توجّهاً استراتيجيّاً مكّن الشّركة من الحفاظ على روحها الرّياديّة رغم توسّعها الهائل عالميّاً. [2]
التحديات والمخاطر
مع ذٰلك، لم تكن القيادة الأفقيّة في نتفلكس خاليةً من العقبات. فكلّ نموذجٍ يقوم على الحرّيّة الواسعة يحتاج إلى توازنٍ دقيقٍ بين الثّقة والانضباط. وأولى هٰذه التّحدّيات تمثّلت في ضرورة امتلاك الموظّفين كفاءاتٍ عاليةٍ وتحفيزاً ذاتيّاً مستمرّاً، لأنّ هٰذا النّظام لا ينجح إلّا في بيئةٍ يهيمن عليها الاحتراف والنّضج المهنيّ. فإذا انخفضت «كثافة المواهب»، تضعف فاعليّة النّموذج وتختلّ آليّاته.
أمّا التّحدّي الثّاني فيكمن في احتماليّة ضبابيّة المسؤوليّات، إذ قد تتحوّل الحرّيّة المفرطة إلى مساحةٍ من الارتباك إذا لم تحدّد الأدوار بدقّةٍ، أو إذا غابت المتابعة الذّكيّة للنّتائج. كذٰلك تواجه نتفلكس صعوبةً في توسيع هٰذا النّموذج عبر مناطق جغرافيّةٍ متعدّدةٍ تختلف في ثقافاتها التّنظيميّة وتوقّعاتها من القيادة. فالأسلوب الّذي ينجح في وادي السّيليكون قد يحتاج إلى تعديلٍ كبيرٍ ليعمل بالكفاءة نفسها في بيئاتٍ أكثر محافظةً أو تقليديّةً.
الخاتمة
تجسّد القيادة الأفقيّة في نتفلكس تحوّلاً عميقاً في مفهوم الإدارة الحديثة، إذ نقلت مركز الثّقل من سلطة القائد إلى وعي الفريق، ومن المراقبة المستمرّة إلى الثّقة المنظّمة. فلم تكتف الشّركة بمنح الحرّيّة، بل قدّمت معها السّياق والمعنى، لتحوّل العامل من منفّذٍ إلى صانع قرارٍ ومسؤولٍ عن النّجاح الجماعيّ. وعلى الرّغم من التّحدّيات الّتي تصاحب هٰذا الأسلوب، فإنّ نتائجه على مستوى الإبداع والمرونة والالتزام جعلته نموذجاً يحتذى به في عالم الشّركات الرّقميّة.
-
الأسئلة الشائعة
- ما الذي يميز نموذج القيادة الأفقية في Netflix عن غيره من الشركات؟ يمتاز هذا النّموذج بتركيزه على الثّقة والتّفويض بدل الرّقابة المباشرة، إذ تمنح Netflix موظّفيها حريّة اتخاذ القرار مع توفير السّياق الاستراتيجيّ اللّازم. فلا تعتمد على التّسلسل الهرميّ، بل على تمكين الأفراد وتشجيعهم على المبادرة، ممّا يجعل بيئة العمل أكثر ديناميكيّةً وابتكاراً.
- كيف تعزز القيادة الأفقية في Netflix روح الابتكار؟ تعزز القيادة الأفقية الابتكار لأنّها تزيل الخوف من الخطأ، وتشجع الفرق على التّجريب دون انتظار موافقاتٍ مطوّلةٍ؛ فكل موظّفٍ يمتلك حريّة اقتراح الحلول وتنفيذ الأفكار الجديدة، ممّا يولّد أفكاراً متنوّعةً وسريعة التّطوّر، وهو أمرٌ أساسيٌّ في صناعة التّرفيه الرّقميّ التي تتطلّب مرونةً عاليةً.