الذكاء المحلي الفائق... الوجه الحقيقي لمستقبل الذكاء الاصطناعي
بينما ينشغل العالم ببناء ذكاءٍ عام يحاكي الإنسان، يبرز اتّجاهٌ جديدٌ يرى أنّ جوهر المستقبل يكمن في الذّكاء المحليّ القادر على فهم المكان والسّياق والتّأثير الفعليّ
على مدى العقد الماضي، انشغل الخطاب العالميّ حول الذكاء الاصطناعي بالسّعي وراء ما يُعرف بالذكاء الاصطناعي العام (Artificial General Intelligence – AGI)، أي الأنظمة القادرة على التّفكير باستيعاب الإنسان نفسه. وقد ضخّ كبار الرّؤساء التّنفيذيّين، من أمثال مارك زوكربيرغ (Mark Zuckerberg) وسام ألتمان (Sam Altman) وإيلون ماسك (Elon Musk)، مليارات الدولارات في سباقٍ محمومٍ نحو هذا الأفق. غير أنّ السّؤال الأعمق يظلّ مطروحاً: ماذا لو لم يكن هذا هو السّباق الحقيقيّ للذكاء الاصطناعي؟
أؤمن بأن مستقبل الذكاء الاصطناعي لا يكمن في الشّمول، بل في التّخصّص؛ فالقيمة الكبرى لا تُستمدّ من اتّساع نطاق الإدراك، بل من دقّة الفهم المحليّ وتكامل البيانات والسّياق والفعل في النّطاق القريب من حياة الإنسان. كما أنّ الذّكاء المحليّ الفائق هو الوجه العمليّ المقابل للذكاء العامّ؛ إنّه لحظة إدراك بأنّ الذكاء الاصطناعي لا يحتاج إلى فهم العالم بأسره، بل إلى التّعمّق في بيئةٍ محدّدةٍ تشكّل سلوك الأفراد والتّجارة والمجتمعات.
ونحن نعيش في عالم تحكمه التّفاصيل المحليّة؛ فكلّ قرارٍ نتّخذه، من اختيار المقهى إلى متجر البقالة أو النادي الرياضي، يتأثّر بعوامل دقيقةٍ: حركة المرور، والطّقس، وخصائص الحيّ، ونبض الثّقافة المحليّة، بل وحتّى المزاج المجتمعيّ المتغيّر من ساعةٍ إلى أخرى. ومع ذلك، فإنّ معظم النّماذج الحالية للذكاء الاصطناعي عمياء عن هذه الحقيقة.
تتغذّى النّماذج السّائدة اليوم على بياناتٍ عالميّةٍ مجرّدةٍ، وتُبنى على خوارزميّات تحلّل بلا سياقٍ، فيما يقف الذكاء المحلي الفائق على النّقيض من ذلك. إنّه يقرّب العدسة، يمنح الآلة القدرة على الرّؤية الدّقيقة، والتّعلّم من الواقع المحيط، والتّنبؤ بما يجري في الميدان نفسه لا في الفضاء الافتراضيّ. وكما أعاد الإنترنت تنظيم نفسه بعد توسّعه العالميّ إلى مجتمعاتٍ صغيرةٍ متخصّصةٍ، يسلك الذكاء الاصطناعي المسار ذاته، متحوّلاً من التّعميم المفرط إلى الدّقة الموضعيّة المتناهيّة.
في المنظومة الّتي نطوّرها في هابكونكت، لا نطارد فكرة “الدّماغ الكليّ”، بل نبني ملايين الشّبكات العصبيّة الصّغيرة، كلّ منها متّصلة ببيئتها الخاصّة، مدرّبة على بياناتها البيئيّة والسّلوكيّة والاقتصاديّة الفريدة.
هذا ليس تنظيراً بل ممارسة؛ فالذكاء المحلي الفائق أصبح اليوم محرّكاً حقيقيّاً للمبيعات والرّبحيّة لدى كبرى العلامات في تجارة التجزئة والمطاعم السّريعة حول العالم. والفارق الجوهريّ أنّ الذّكاء العامّ يعدّ بإمكاناتٍ مستقبليّةٍ، بينما الذكاء المحلي الفائق يقدّم نتائج ملموسةً الآن. وقد يبدو “المحلي” لأوّل وهلةٍ محدود الأفق، لكنّه في الواقع قاعدة التّوسّع المقبلة؛ فأنظمة الذكاء الأكثر قدرةً على النّموّ خلال العقد القادم ستكون تلك التي تفكّر محليّاً وتتصل عالميّاً، تماماً كما تتطوّر الكائنات عبر خلايا متخصّصةٍ متعاونةٍ لا نسخٍ متطابقةٍ.
تخيّل ذكاءً اصطناعيّاً لا يعرف فقط حركة المرور في مدينتك، بل إيقاع شارعك، ويفهم الفارق بين زبائن مقهى صباح الثّلاثاء وسلوك الشّراء في سلسلة فروعٍ ببوسطن مقارنة بفينيكس، أريزونا. هذا ليس ذكاءً “أكثر”، بل وعياً أعمق. والوعي هو ما يحوّل التّقنية إلى أثرٍ.
لقد بلغت دورة الضّجيج حول الذكاء الاصطناعي ذروتها؛ فالنّماذج تتكاثر والعناوين تزداد، لكن العائد على الاستثمار لا يزال غائباً. ويبدّد الذكاء المحلي الفائق هذا الغموض ويعيد للذكاء الاصطناعي هدفه الأساسيّ: خلق نتائج واقعيّةٍ. إنّه يحوّل البيانات إلى قراراتٍ، والرّؤى إلى أرباحٍ، والتّفاعل إلى علاقةٍ عضويّةٍ بين العلامة والمجتمع؛ هذا ليس وعداً بالمستقبل، بل نموذجاً عمليّاً للحاضر.
حين يبدأ قياس الذكاء الاصطناعي لا بما يتنبأ به، بل بما يغيّره فعليّاً، نكون قد انتقلنا من النّظريّة إلى الأداء الحقيقيّ عند تقاطع الذّكاء والأثر. والذكاء المحلي الفائق ليس مجرّد تقنيةٍ، بل إعادة إنسانيّةٍ للبيانات؛ فعندما يفهم الذكاء الاصطناعي نبض المجتمع، عاداته وطقوسه وإيقاعه الخاصّ، يصبح قادراً على تمكين صانعي القرار بالدّقة والفهم والتّعاطف.
في المستقبل القريب، قد يواصل الذكاء الاصطناعي العام سعيه وراء الوعي، لكن الذكاء المحلي الفائق سينصرف إلى الملاءمة؛ فالملاءمة -لا الإدراك الخام- هي التي ستقود الاقتصادات والعلاقات والثّقة.
لن يشبه الذكاء الاصطناعي الدّماغ البشريّ عبر شموليّته، بل عبر وعيه بالسّياق؛ فكما لا يدرك الإنسان العالم بأسره دفعة واحدة، لن يتقن الذكاء الاصطناعي المستقبل إلّا حين يتقن تفاصيل العالم القريب منه. وهذا هو المستقبل الّذي أطمح إلى بنائه باستقلالٍ ومسؤوليّةٍ، معتمداً على ذكاء المكان والقرب والمعنى؛ لأنّ مستقبل الذكاء الاصطناعي ليس في كلّ مكانٍ، بل هنا… إلى جانبك.
رأي تحليلي لِـمايكل كوخ (Michael Koch)، الرّئيس التّنفيذيّ لشركة "هابكونكت" (HubKonnect)، نُشر في الأصل على موقع Inc.com.