إنتاجية بلا جدوى: ما الفرق بين الإنتاجية الفعالة والإنتاجية السامة؟
حين يتحوّل السّعي وراء إنجاز المهامّ إلى نشاطٍ مستمرٍّ بلا نتائج حقيقيّةٍ، تصبح القدرة على التّركيز على الأوّلويّات والنّتائج الفعليّة مفتاح الإنتاجيّة الحقيقّية

تتزايد في عالم اليوم الضّغوط على الأفراد لتحقيق إنجازاتٍ أكثر في وقتٍ أقلّ، إذ أصبح النّجاح يقاس غالباً بعدد المهامّ المنجزة لا بجودة النّتائج. ومن هنا برز مفهوم الإنتاجيّة السّامّة بوصفه الوجه الآخر للإنتاجيّة، حيث يدفع الأفراد إلى بذل جهدٍ كبيرٍ بلا أثرٍ حقيقيٍّ، فيحوّل العمل إلى سباقٍ مرهقٍ ينتهي باستنزاف الطّاقة دون قيمةٍ مضافةٍ. بينما تهدف الإنتاجيّة الفعّالة إلى تحقيق نتائج واضحةٍ ومستدامةٍ، تركّز الإنتاجيّة السّامّة على المظاهر الخارجيّة مثل كثرة الاجتماعات، أو سرعة الرّدّ على البريد الإلكترونيّ، أو الجلوس لساعاتٍ طويلةٍ دون إنجازٍ فعليٍّ. لذٰلك، يصبح من الضّروريّ أن يفرّق الإنسان بين النّمطين حتّى يحافظ على توازنه ويستثمر وقته بذكاءٍ.
الإنتاجية الفعالة
تعرّف الإنتاجيّة الفعّالة بأنّها إنجاز الأعمال ذات القيمة الحقيقيّة الّتي تساهم بشكلٍ مباشرٍ في الأهداف الفرديّة أو المؤسّسيّة؛ فهي تقوم على التّركيز على الأولويّات، واستخدام الموارد بحكمةٍ، وتحقيق التّوازن بين الجهد والنّتيجة. على سبيل المثال، عندما ينجز الموظّف تقريراً دقيقاً يسهّل اتّخاذ قراراتٍ مهمّةٍ، أو حين يبتكر حلٌّ يقلّل التّكاليف، فإنّ ذٰلك يعدّ إنتاجيّةً فعّالةً، إذ يتحوّل الجهد إلى نتائج ملموسةٍ ترفع من قيمة العمل.
الإنتاجية السامة
تظهر الإنتاجيّة السّامّة عندما يستنزف الفرد في مهامٍّ مكرّرةٍ أو سطحيّةٍ لا تضيف أيّ قيمةٍ حقيقيّةٍ؛ فقد يظنّ البعض أنّ الجلوس لساعاتٍ طويلةٍ أمام المكتب دليل التزامٍ، أو أنّ الرّدّ السّريع على الرّسائل الإلكترونيّة علامة كفاءةٍ، غير أنّ هٰذه الممارسات لا تعكس إنتاجيّةً فعليّةً. إذ يقوم هٰذا النّمط على الهوس بالمظاهر بدلاً من النّتائج، فيتحوّل العمل إلى نشاطاتٍ متواصلةٍ لكنّها بلا جدوى، ممّا يؤدّي في النّهاية إلى تراجع الأداء على المدى البعيد. [1]
كيف تفرق بين الإنتاجية الفعالة والإنتاجية السامة؟
لا تكمن المسألة في تقسيم الجهد بين عملٍ فعليٍّ وآخر وهميٍّ، بل في فلسفةٍ مختلفةٍ تماماً حول معنى الإنجاز. فالإنتاجيّة الفعّالة تبنى على وضوح الأهداف وإدراك الأولويّات، فيكرّس الفرد وقته لمهامٍّ تخلق أثراً ملموساً يمكن قياسه، مثل تحسين تجربة العملاء أو تطوير حلولٍ مبتكرةٍ تغيّر واقع المؤسّسة. وهنا يصبح العمل وسيلةً لإضافة قيمةٍ حقيقيّةٍ للإنسان والمؤسّسة معاً.
أمّا الإنتاجيّة السّامّة فتتغذّى على ثقافة الانشغال من أجل الظّهور، حيث ينغمس الموظّف في أنشطةٍ متواصلةٍ لا تنتج شيئاً ذا قيمةٍ: اجتماعاتٌ طويلةٌ بلا قراراتٍ، تقارير متكرّرةٌ لا تستخدم، أو استجاباتٌ فوريّةٌ للبريد خوفاً من الظّهور بمظهرٍ غير ملتزمٍ. وعلى الرّغم من أنّها قد توحي بالجدّيّة، إلّا أنّها في الحقيقة تهدر الموارد وتستنزف الطّاقة بلا مردودٍ ملموسٍ.
ويظهر الأثر النّفسيّ هنا بوضوحٍ؛ حيث تولّد الإنتاجيّة الفعّالة شعوراً بالإنجاز والرّضا الدّاخليّ وتبني دافعيّةً للإبداع، لأنّها مرتبطةٌ برؤية معنى لما ينجز. بينما تولّد الإنتاجيّة السّامّة شعوراً دائماً بالضّغط والإرهاق، فيجد الفرد نفسه يعمل بلا نهايةٍ ولا يحقّق تقدّماً، ممّا يفتح الباب أمام الاحتراق الوظيفيّ وتدهور الأداء. [1] [2]
ما دور ثقافة الشركة في زيادة الإنتاجية السامة؟
تلعب ثقافة الشّركة دوراً حاسماً في تشكيل سلوك الموظّفين وتحديد ما إذا كانت بيئة العمل ستدفعهم نحو إنتاجيّةٍ فعّالةٍ أو تدفعهم إلى السّقوط في فخّ الإنتاجيّة السّامّة. فعندما تتبنّى الإدارة قيماً سطحيّةً تقوم على ربط النّجاح بعدد السّاعات الطّويلة في المكتب، أو بمدى سرعة الاستجابة للبريد الإلكترونيّ، أو بقدرة الموظّف على حضور كلّ اجتماعٍ حتّى لو لم يكن ضروريّاً، فإنّها تعزّز بشكلٍ غير مباشرٍ سلوكيّاتٍ مدمّرةً للطّاقة وتغذّي ثقافة الانشغال الشّكليّ. ونتيجةً لذٰلك، يصبح الموظّف أكثر حرصاً على الظّهور بمظهر "المشغول دائماً" بدلاً من التّركيز على تحقيق نتائج ملموسةٍ.
ومن جانبٍ آخر، تؤدّي هٰذه الثّقافة إلى خلق ضغطٍ نفسيٍّ مستمرٍّ على الموظّفين، حيث يشعرون أنّ قيمتهم تقاس بالمظاهر لا بالإسهامات الفعليّة. ومع مرور الوقت، يترسّخ لدى الفرق شعورٌ بالإنهاك والإحباط، ما يؤدّي إلى تراجع جودة العمل وارتفاع معدّلات الدّوران الوظيفيّ. وعلى العكس تماماً، حين تتبنّى الشّركات ثقافةً قائمةً على تقييم الأداء من خلال الإنجازات الحقيقيّة وتمنح مرونةً في كيفيّة إنجاز المهامّ، فإنّها تفتح الباب أمام إبداع الموظّفين، وتحافظ على طاقتهم، وتبني بيئة عملٍ صحّيّةٍ تنتج نمطاً من الإنتاجيّة الفعّالة والمستدامة
علامات تدل على الإنتاجية السامة
تتجسّد مظاهر الإنتاجيّة السّامّة في سلوكيّاتٍ يوميّةٍ قد يظنّها الفرد إيجابيّةً، لكنّها مؤشّرات خطرٍ حقيقيّةٌ، مثل:
- قضاء ساعاتٍ طويلةٍ دون استراحةٍ رغم غياب أيّ تقدّمٍ حقيقيٍّ.
- الانشغال المستمرّ بالمهامّ الصّغيرة على حساب الأولويّات الكبرى.
- تنفيذ مهامٍّ بلا قيمةٍ فقط لتجنّب الظّهور بمظهرٍ غير نشيطٍ.
- عقد اجتماعاتٍ متكرّرةٍ بلا قراراتٍ أو نتائج ملموسةٍ.
- الإفراط في مزاولة مهامٍّ متعدّدةٍ في وقتٍ واحدٍ ممّا يضعف التّركيز ويزيد من الأخطاء.
الخاتمة
تؤكّد التّجارب أنّ التّحدّي لا يكمن في حجم الجهد المبذول، بل في نوعيّته. حيث تقوم الإنتاجيّة الفعّالة على إنجاز مهامٍّ ذات قيمةٍ تحدث فرقاً ملموساً، بينما تهدر الإنتاجيّة السّامّة الوقت والطّاقة في أنشطةٍ فارغةٍ بلا أثرٍ. لذٰلك، يصبح إدراك الفارق بينهما ضرورةً أساسيّةً للأفراد والمؤسّسات، إذ يقاس النّجاح بالنّتائج لا بالمظاهر.
-
الأسئلة الشائعة
- ما العلاقة بين الإنتاجية السامة والإحتراق الوظيفي؟ تؤدّي الإنتاجية السامة مع الوقت إلى شعورٍ بالضّغط المستمرّ وإنهاكٍ جسديٍّ ونفسيٍّ، وهذا يفتح الباب أمام الاحتراق الوظيفيّ الّذي يقلّل من جودة الأداء ويزيد نسب الغياب.
- هل الإنتاجية السامة مرتبطة بالتكنولوجيا الحديثة فقط؟ لا، فهي ظاهرةٌ قديمةٌ، لكن التّكنولوجيا سرّعت انتشارها لأنّها جعلت الفرد متاحاً دائماً ومتّصلٌ بالعمل 24 ساعةً؛ لذلك يجب استخدام التكنولوجيا كأداة تنظيمٍ لا كوسيلة ضغطٍ دائمٍ.