كيف يسرق السهر مفاتيح المجد من خزائن العقل؟
في عالم الأعمال السّريع، تجاهل النّوم ليس علامة قوّةٍ بل وصفة لخسارة الإبداع والقرار، إذ يكشف العلم أنّ الرّاحة وقود الذهن وأساس القيادة الفعّالة

هذا المقال متوفّرٌ باللّغة الإنجليزيّة من هنا.
"النوم هو الأمر الأكثر فعاليّةً يمكننا القيام به لإعادة ضبط صحّة الدّماغ والجسم كلّ يومٍ". هذه كلمات البروفيسور ماثيو ووكر (Matthew Walker)، أستاذ علم الأعصاب وعلم النفس، ومؤلّف كتاب "لماذا ننام: العلم الجديد للنوم والأحلام" (Why We Sleep: The New Science of Sleep and Dreams).
في بيئة الأعمال عالية الوتيرة في الشرق الأوسط، حيث يمكن أن تتحوّل أيام العمل الّتي تمتدّ 14 ساعةً واللّيالي الطّويلة في المكتب إلى شاراتٍ فخرٍ، يصبح النّوم غالباً أوّل ضحيةٍ في طريق النّجاح. لكن علم الأعصاب يكشف حقيقةً صارخةً: النوم الّذي نضحّي به من أجل التّقدّم قد يكون هو نفسه المفتاح لإطلاق أعلى قدراتنا في الأداء.
ما الذي يقوله العلم؟
لا يعني الحرمان من النّوم فقط الشّعور بالإرهاق، بل هو خللٌ جوهريٌّ في وظائف الدّماغ يؤثّر بشكلٍ مباشرٍ على جميع جوانب أدائك. إذ تُظهر الأبحاث أن الحصول على ما بين سبع إلى ثماني ساعاتٍ من النّوم ليلاً لدى البالغين يرتبط بالأداء المعرفيّ الأمثل والصحة النفسية.
وقد ثبت أنّ الوظائف المعرفيّة تتراجع مع كلّ ساعة نومٍ نفقدها دون هذا المعدّل؛ هذه النتيجة تتحدّى الاعتقاد الشّائع بأنّ التّنفيذيين النّاجحين قادرون على الازدهار رغم قلّة النوم. ففي الدماغ، يؤدي الحرمان من النّوم إلى انهيارٍ تدريجيٍّ في المناطق الأكثر أهميّة للقادة؛ فالقشرة الجبهيّة الأماميّة، المسؤولة عن إدارة الضّغط، واتّخاذ القرارات، وتنظيم العواطف، تصبح أقلّ كفاءةً. أمّا اللّوزة الدّماغيّة -ويمكن اعتبارها نظام الإنذار في الدماغ- فتصبح مفرطة الّنشاط، ما يخلق حالةً من ردود الفعل غير المنضبطة الّتي تضعف القيادة الفعّالة. بالتّالي، حين نقلّل من النوم، فإنّنا عمليّاً نخنق قدرة الدّماغ على الأداء الأمثل في الأوقات التي نحتاجه فيها بشدّةٍ.
لا يتوقّف الأمر عند ذلك، فالنّوم لمدّة ست ساعاتٍ أو أقلّ يرتبط بضعف القدرات الذّهنيّة، خصوصاً في الذّاكرة، وبزيادة بروتيناتٍ قد تؤدّي إلى ترسّباتٍ ضارّةٍ في الدّماغ، ما يجعل الحرمان المزمن من النوم خطراً يهدّد صحّة العقل على المدى الطّويل، وليس مجرّد أدائك اللّحظيّ. في الواقع، أثره يظهر سريعاً: صعوبة التّركيز في الاجتماعات، بطء إنجاز المهامّ، وتراجع القدرة على توليد أفكارٍ جديدةٍ.
شاهد أيضاً: كم عدد ساعات النوم المثالية لصحة دماغك؟
أثر العدوى في الشبكات
كقائد، "قدرتك الخارقة" هي أداؤك المعرفيّ، وكل البيانات تؤكّد أنّ الحرمان من النوم يؤدّي إلى تراجعٍ ملحوظٍ فيه. وبمعنى آخر، القدرات الّتي تحدّد نجاحك المهنيّ تتآكل تدريجيّاً إذا لم تحصل على الرّاحة الكافية. وتفاقم الدّيناميكيّات القياديّة هذا الأثر؛ فعدم حضورك بكامل طاقتك الذّهنيّة سينعكس على فريقك ومؤسّستك. كما أنّ ضعف نومك يؤثّر على ذاكرتك، ومدى انتباهك، وقدرتك على اتّخاذ القرار، وكلّ ذلك يخلق موجات تأثيرٍ سلبيّةً.
لا يتوقّف الأمر على الأداء الفرديّ، بل يمتدّ إلى ثقافة المؤسّسة؛ فالقادة يشكّلون قدوةً عمليّةً، وإذا كان فريقك يراك تعمل لساعاتٍ مجنونةٍ وتتعامل مع النّوم كترفٍ، فأنت -بوعي أو دون وعي- تؤسّس لثقافة تقبّل الحرمان من النّوم رغم كل الأدلّة على ضرره.
لهذا السّبب، نحن في "برايم بيرفورمانس لابز" (Prime Performance Labs) نعتبر النوم أساساً غير قابل للتّفاوض في كل برامجنا مع روّاد الأعمال والتّنفيذيّين والمؤسّسين. ببساطةٍ، لا يمكنك تحقيق أداء عالٍ مستدامٍ إذا لم تكن إنساناً سليماً صحيّاً، ولن تكون كذلك إذا لم تحصل على قسطٍ كافٍ من النوم.
خطوات عملية للنوم المنهجي
نعلم أنّ هناك أوقاتاً يتعيّن فيها تقليل ساعات النوم، مثل: مواعيد نهائيّةٍ ضاغطةٍ، أو مفاوضاتٍ حاسمةٍ، أو أزماتٍ طارئةٍ. جميعنا مرّرنا بذلك، وندرك أنّ القيادة تتطلّب أحياناً ساعاتٍ استثنائيّةً. ولكن السّر هو إدراك متى وأين تُجري هذه التّضحيات، وعدم تركها تتحوّل إلى عادةٍ سيئةٍ متأصّلةٍ.
وهنا يأتي دور المنهجيّة، كما لا تقبل بتقليل جودة البنية التّحتيّة التّقنيّة لديك، لا يجب أن تقلّل من جودة البنية البيولوجيّة الّتي تدعمك أنت وفريقك. وعندما تأتي تلك الفترات الحتميّة، تعامل معها كسباقاتٍ قصيرةٍ، لا كماراتون.
استراتيجيّات التّعافي ليست رفاهيّةً، بل هي ضرورةٌ مُلحةٌ؛ فبعد ليلتين أو ثلاث من قلّة النّوم، أعد لجسدك ودماغك حقهما بالعودة الفوريّة إلى سبع أو ثماني ساعاتٍ مكتملةٍ من الرّاحة؛ فالعقل لا يزدهر إلا إذا نال وقتَه المقدّس لإعادة الضّبط. والتّوقيت ميزان الذّهب؛ فإذا اضطررت لانتقاص النّوم، فافعلها بحكمةٍ. ست ساعاتٍ من الرّاحة العميقة قبل عرضٍ مصيريٍّ، أثمن من أربع ساعاتٍ متقطّعةٍ تذيب صفاء الفكر على مدار ليلتين.
ولا تتنازل عن خطوطك الحمراء حتّى في أشدّ أوقات الضّغط؛ حافظ على بيئة نومك نقيّةٍ: غرفةٌ معتمةٌ، وحرارةٌ معتدلةٌ، وبُعدٌ عن شاشاتٍ تُشتّت الحواس؛ فكلّما ضاق وقت النّوم، ازدادت قيمة هذه الأساسيّات. وتذكّر: الحرمان من النوم كالدَّين الماليّ، كلّما تراكم، تضاعف ثمنه.
تكشف الأبحاث في علم اللّدونة العصبيّة ما هو أخطر؛ فالنّقص المزمن في النوم يُعيد تشكيل الدّماغ نفسه، مُحدّثاً تغيّيراتٍ بنيويّةٍ تمسّ الشّبكات العصبيّة الّتي تُسند الأداء القياديّ، حتّى تبدأ في الانهيار. كما يقول ماثيو ووكر، "البشر هم الكائن الوحيد الّذي يختار طوعاً أن يحرم نفسه من النوم بلا مكسبٍ يُذكر". ورغم ذلك، لا نزال نتعامل مع النوم وكأنّه ضعفٌ، لا كونه الرّكيزة الّتي يقوم عليها الأداء الأمثل.
وعلى المؤسّسات الّتي تنشد تعظيم رأس المال البشريّ أن تُعيد صياغة رؤيتها للنّوم؛ ليس وقتاً مسلوباً من العمل، بل هو الإعداد الحقيقيّ له؛ فالنوم ليس خصم الإنتاجيّة، بل هو شاحنها الأعظم.
ذكاء لا ضعف
تجمع الأدلّة على أنّ 1-3% فقط من البشر يحملون في جيناتهم القدرة على العيش بأقلّ من 6 ساعات نومٍ في اللّيل، ومع ذلك يصرّ كثيرُ من القادة على إيهام أنفسهم بأنّهم من هذه الفئة النّادرة، في مقامرةٍ خطيرةٍ بالعقل والجسد. فماذا لو قلبنا المعادلة؟ ماذا لو أدركنا أن جعل النوم أولويّةً ليس علامة ضعفٍ، بل قمّة الذّكاء؟ ففي اقتصادٍ تُقاس فيه القيمة بجودة الفكر، يصبح وضوح العقل هو العملة الأغلى.
وحين تعانق بصيرتك حقيقة العلم، تتضّح أمامك الكلفة الباهظة؛ فالسّؤال الحقيقيّ ليس: هل تستطيع أن تمنح نفسك وقتاً للنّوم؟ بل: هل تملك رفاهيّة تحمّل الثّمن الفادح لحرمان نفسك منه؟
عن الكُتّاب
جيسون ليفي، مؤسّس "برايم بيرفورمانس لابز" (Prime Performance Labs)، يقود مبادرةً رائدةً تهدف إلى تمكين روّاد الأعمال والتّنفيذيّين والمؤسّسين من الارتقاء بحياتهم وجودة قيادتهم. أمّا الدكتورة سميرة كاتس، عالمة الأعصاب المعرفيّة والمقيمة في دولة الإمارات، فتشرف على عمليّات برايم بيرفورمانس لابز في منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، واضعةً خبرتها العلميّة في خدمة تطوير الأداء البشريّ.