السمية في العمل تضر الشركات: هل حان وقت استبدالها بالانخراط؟
تستنزف البيئات السّامّة في العمل طاقات الموظّفين وتخّفض الإنتاجيّة، فهل حان الوقت لاستبدال الخوف بالانخراط والمسؤوليّة المشتركة؟
تبدو بيئة العمل الحديثة اليوم وكأنّها ساحةٌ مزدحمةٌ بالتّوتّرات الخفيّة والضّغوط المتراكمة، حيث تتقاطع الطّموحات الفرديّة مع الأهداف المؤسّسيّة في مشهدٍ معقّدٍ لا يخلو من الصّراعات؛ فمع تسارع الإيقاع المهنيّ، وتزايد التّنافس، وتمدّد ساعات العمل الرّقميّة إلى ما بعد الجدران المكتبيّة، بدأ كثيرٌ من الموظّفين يشعرون بأنّهم يعملون داخل منظوماتٍ تستنزف طاقتهم أكثر ممّا تحتضن قدراتهم. ومن هنا برز مصطلح «البيئة السّامّة» بوصفه تعبيراً دقيقاً عن تلك الأجواء الّتي تفقد العمل معناه، وتحوّل التّعاون إلى عبءٍ نفسيٍّ يوميٍّ.
ومع أنّ ظاهرة السّمّيّة الوظيفيّة لم تعد جديدةً على الأبحاث أو الإعلام، فإنّ حدّتها في السّنوات الأخيرة قد وصلت إلى مستوياتٍ تنذر بالخطر، لتكشف عن أزمةٍ أعمق من مجرّد خلافاتٍ بين الزّملاء أو سوء إدارةٍ من القادة؛ إنّها أزمة ثقةٍ وانفصالٍ بين الإنسان والعمل، حيث يشعر الموظّف بأنّ جهده لا يقدّر، وصوته لا يسمع، ووجوده لا يتجاوز كونه رقماً في منظومةٍ تبحث عن الإنتاج لا عن الانتماء.
ملامح بيئة العمل السامة اليوم
كشفت دراسةٌ حديثةٌ أجراها موقع Monster المتخصّص في التّوظيف عن مؤشّراتٍ مقلقةٍ توضّح مدى تدهور بيئات العمل خلال السّنوات الأخيرة، إذ أقرّ 30% من الموظّفين بأنّ النّزاعات في مكان العمل قد ازدادت سوءاً مقارنةً بما كانت عليه قبل ثلاث سنواتٍ، فيما أشار أكثر من 20% إلى تفاقم السّلوك العدائيّ بين الزّملاء خلال العام الماضي. وفي الوقت نفسه، رأى 54% أنّ ثقافة الشّركات يجب أن تتطوّر مع الزّمن بدلاً من مطالبة الموظّفين بالتّأقلم مع عاداتٍ قديمةٍ باليةٍ، كما أعرب 55% عن رفضهم تجاوز المدراء لحدودهم الشّخصيّة، فيما طالب 62% بتذكيراتٍ داخليّةٍ تشجّع على اللّطف والاحترام في بيئة العمل.
ولأنّ الفارق بين الخلاف الطّبيعيّ والعداء الصّريح قد بدأ يتلاشى، ازدادت نسبة الموظّفين الّذين يأخذون إجازاتٍ مرضيّةً للهروب من بيئاتهم السّامّة، سواءٌ بشكلٍ مؤقّتٍ أو دائمٍ. وهٰذه ليست أزمة معنويّاتٍ فقط، بل مشكلةً اقتصاديّةً ضخمةً، إذ تقدّر خسائر الشّركات الأميركيّة من دوران الموظّفين بسبب الثّقافة السّامّة بمليارات الدّولارات سنويّاً. وبكلمةٍ واحدةٍ، السّمّيّة لا تجرح الشّركات فقط، بل تنزفها نزفاً بطيئاً ومستمرّاً.
السمية في العمل تضر الشركات: هل حان وقت استبدالها بالانخراط؟
تعدّ السّميّة في بيئة العمل من أخطر التّحديات الّتي تواجه المؤسّسات المعاصرة، إذ لا تقتصر آثارها على الجانب النّفسي للموظّفين، بل تمتد لتقوّض الأداء والإنتاجيّة والابتكار معاً. فعندما تسود أجواء الخوف أو الصّراع أو انعدام الثّقة، يتراجع التّواصل بين الزملاء، ويختفي الدّافع الدّاخلي للعمل، ويتحوّل مكان العمل من مصدرٍ للإنجاز إلى مساحةٍ تستنزف الطّاقات وتغذّي الإحباط. ومع مرور الوقت، تبدأ الشّركات بفقدان كوادرها المتميزة واحدةً تلو الأخرى، ليصبح النّزيف البشريّ والاقتصاديّ واقعاً يصعب وقفه.
لكن الخبر الجيد أنّ السّمّيّة ليست قدراً محتوماً، بل ظاهرةٌ يمكن معالجتها إذا استُبدلت بثقافة الانخراط الحقيقي. فالموظّف المنخرط لا يعمل لمجرد الرّاتب، بل يشعر بالانتماء إلى هدفٍ أكبر، ويشارك في صنع القرار، ويرى أثر جهده في النّتائج. إذ يعيد الانخراط تعريف العلاقة بين القائد والفريق، فيحوّل الإدارة من سلطةٍ إلى شراكةٍ، ويزرع في النّفوس شعوراً بالمسّؤوليّة الجماعيّة تجاه النّجاح. وعندما تشجع المؤسّسة بيئة الحوار والثّقة والشّفافيّة، فإنّها لا تكتفي بعلاج السّمّيّة، بل تبني مناعةً داخليّةً تحميها من عودتها مستقبلاً.
لقد أثبتت الدّراسات أنّ الشّركات الّتي تستبدل ثقافة الخوف بثقافة المشاركة تحقق نتائج ماليّةً أفضل، وتتمتع بمعدلات احتفاظٍ أعلى بالموظّفين، كما تنمو قدراتها الإبداعيّة بشكلٍ ملحوظٍ. لذلك، لم يعد السّؤال ما إذا كانت السّمّيّة تستحق المعالجة، بل كيف يمكن تحويلها إلى طاقةٍ إيجابيّةٍ ترفع من تماسك الفرق وتدفع المؤسّسة نحو مستقبلٍ أكثر استقراراً وربحيّةً.
المشاركة الاقتصادية: الدواء الحقيقي ضد السمية
وللأسف، تسير شركاتٌ كثيرةٌ في الاتّجاه المعاكس. فقد أظهر تحليل MIT Sloan Management Review أنّ الثّقافة السّامّة كانت العامل الأدقّ في التّنبّؤ بمعدّلات الاستقالة أثناء موجة «الاستقالات الكبرى». إذ زادت احتماليّة مغادرة الموظّف لمكان عمله السّامّ بعشرة أضعافٍ مقارنةً بمن يواجه مشاكل في الأجور. وببساطةٍ، لا يمكن لأيّ مؤسّسةٍ أن تنمو وموظّفوها يفكّرون كيف يغادرونها.
وتشير بيانات جمعيّة إدارة الموارد البشريّة (SHRM) إلى أنّ الثّقافة السّامّة كلّفت الشّركات الأميركيّة أكثر من 223 مليار دولارٍ خلال خمس سنواتٍ فقط بسبب الغياب والاستقالات. ولذٰلك، لا يكفي أن تعلّق الشّركات شعاراتٍ عن الاحترام والتّعاون، بل عليها أن تبني غايةً مشتركةً، ونظاماً عادلاً لتوزيع الأرباح، وآليّاتٍ حقيقيّةً لتقدير المساهمات الفرديّة. فحين يشعر الموظّف بأنّه شريكٌ لا تابعٌ، يتوقّف عن البحث عن عملٍ جديدٍ، ويبدأ بالبحث عن فكرةٍ جديدةٍ تحقّق النّجاح داخل شركته. وقد أثبتت التّجارب أنّ المؤسّسات الّتي تشرك موظّفيها فعلاً في خدمة العملاء وتطوير الأعمال تحقّق أفضل النّتائج في الرّبحيّة والاحتفاظ بالكوادر والنّموّ المستدام. فالثّقافات الصّحّيّة لا تنتج بيئةً لطيفةً فقط، بل تبني اقتصاداً أكثر متانةً وربحاً.
من أين يبدأ الإصلاح؟
لمن يريد كسر دائرة السّمّيّة وبناء بيئةٍ صحّيّةٍ متوازنةٍ، فالبداية بسيطةٌ وواضحةٌ:
- استمع للموظّفين بصدقٍ، لا لتعرف كيف يشعرون فقط، بل لتفهم مدى ارتباطهم بأهداف المؤسّسة.
- حدّد غايتك المشتركة بوضوحٍ: من هو العميل؟ وما الّذي يقدّره أكثر؟
- كافئ التّحسّن، لا الجهد فقط، وطبّق نظام مشاركة الأرباح أو التّقدير القائم على النّتائج.
الخلاصة
في النهاية، أماكن العمل السّامّة ليست قدراً، بل نتيجةً لأنظمةٍ فاشلةٍ في الإدارة والاتّصال. والحلّ ليس في «إدارة السّمّيّة»، بل في استبدالها بالمسؤوليّة المشتركة، والغاية الواضحة، وروح الفريق؛ فحين يزرع في المؤسّسة شعور الملكيّة والانتماء، تبن قافيّةٌ أقوى، وشركةٌ أذكى، ومستقبلٌ أكثر استقراراً وربحاً.
شاهد أيضاً: 7 إشارات خفيّة تكشف تحوّل بيئة العمل إلى سامة