إدارة الأزمات في العصر الرقمي: دليل شامل لحماية سمعة الشركات
في زمنٍ تتسارع فيه الأخبار وتنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي في ثوانٍ، تصبح سمعة الشّركات على المحكّ، ممّا يحتم وجود خطّةٍ متكاملةٍ لإدارة الأزمات بشكلٍ استباقيٍّ ومدروسٍ

هذا المقال متوفّر باللّغة الإنجليزيّة من هنا.
في عالم اليوم سريع الإيقاع، المدفوع بوسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت الأخبار والمعلومات فيضاً لا ينتهي. ويمثّل هذا التّدفّق نعمةً ونقمةً على الشّركات؛ فمن جهةٍ، بات من السّهل التّرويج للمنظّمات والعلامات التجارية ومشاركة المعلومات عنها، ومن جهةٍ أخرى، أصبحت تلك الشّركات أكثر عرضةً للأزمات التي قد تؤثّر على سمعتها وأدائها التّجاريّ في لحظاتٍ معدودةٍ.
التفكير في السمعة بدلاً من مجرد إدارة الأزمة
بالنّسبة لأيّ شركةٍ، تبدأ إدارة الأزمات الفعّالة قبل حدوث الأزمة بوقتٍ طويلٍ. ويتجلّى ذلك في أساسيّات تشغيل الأعمال، ومدى توافق أصحاب المصلحة، وقوّة البنية التّحتيّة قبل أن يصل المنتج إلى المستهلك. ويظهر ذلك بوضوحٍ في سلسلة التّوريد الكاملة، بدءاً من الشّركاء الذين يدعمون تقديم المنتجات والخدمات للعملاء، مروراً بعمليّات ضبط الجودة، ووصولاً إلى كفاءة الأفراد في جميع مستويات المؤسّسة واستعدادهم للتّنفيذ الأمثل.
عندما تبدأ الأزمة في الظّهور، تميل بعض العلامات التجارية إلى التّعويل على سرعة دورة الأخبار الحاليّة، متوقعين أنّ النّاس سينسون قريباً وينتقلون للحديث عن أمرٍ جديدٍ، إلّا أنّ هذا التّصوّر غير صحيحٍ؛ فحتّى لو لم تعد الحادثة تتصدّر عناوين الأخبار، تظلّ مرتبطةً بالعلامة التجارية في كلّ مرةٍ يتم ذكرها لاحقاً. وبالتّالي، فإنّ إدارة الأزمات تتجاوز التّعامل مع الوضع في لحظة الأزمة، إلى إدارة السّمعة على المدى البعيد.
إدارة الاتصال الفوري وقت الأزمة
بوجهٍ عامٍّ، وفي أي سيناريو أزمةٍ، يجب على الشّركات التّحرّك بسرعةٍ والتّصرّف فوراً. إذ تُعدّ السّاعات الأولى هي الأكثر حرجاً، ويجب أن يتم الرّدّ خلال أو مباشرةً بعد مرور أوّل 24 ساعةً من اندلاع الأزمة. وهنا، لا بدّ من فهمٍ دقيقٍ وعميقٍ لما يجري لتقييمه بشكلٍ سليمٍ وتحديد الرّد المناسب. وفي حال كانت الأزمة كبيرة النّطاق، ينبغي أن يتضمّن الرّدّ توضيحاً للوضع، مع تقديم حلٍّ سريعٍ ومباشرٍ. ويجب أن تعكس الرّسائل ثقةً بأنّ الشّركة تهتمّ بما حدث، وتعمل بجديّةٍ على حلّ المشكلة.
التّوصية الأولى بعد اندلاع الأزمة هي إصدار بيانٍ داخليٍّ لإبلاغ الموظّفين بالوضع، والتّنبيه عليهم بعدم الإدلاء بأيّ تصريحاتٍ أو تعليقاتٍ حتّى اكتمال التّحقيقات واتّضاح الإجراءات الواجب اتّخاذها. بعد ذلك، تُفعِّل الشّركة فريقها المعنيّ بالاتّصال بالأزمات، للعمل بسرعةٍ على تصنيف وتحليل الموقف، ثم إعداد وإصدار بيانٍ رسميٍّ عند الحاجة.
ومن أبرز الأمثلة النّموذجيّة على إدارة الأزمات النّاجحة هي ما قامت به شركة "جونسون آند جونسون" (Johnson & Johnson) في أزمة تايلينول عام 1982. فبعد اكتشاف أن بعض الكبسولات تم تلويثها بالسيانيد، ممّا أدّى إلى وقوع وفيّاتٍ، سحبت الشّركة جميع منتجات تايلينول من الأسواق على الفور، رغم الخسائر الماليّة الفادحة. كما تواصلت بشفافيّةٍ مع الجمهور، وقدّمت تحديثاتٍ مستمرّةً عن الإجراءات الّتي كانت تتخذّها بالتّعاون مع السّلطات. وكنتيجةٍ، أدخلت تغليفاً مقاوماً للعبث لاستعادة ثقة المستهلكين، ممّا ساعد الشّركة على الحفاظ على ثقة الجمهور وإدارة سمعتها على المدى القصير والبعيد.
التخطيط وفقاً لسيناريوهات مختلفة
على الرّغم من أهميّة التّعلّم من التّجارب، إلّا أنّ كل أزمةٍ هي حالةٌ فريدةٌ من نوعها وتتطلّب خطة عملٍ خاصّةً بها. لهذا، فإنّ التّخطيط وفقاً لسيناريوهاتٍ متوقّعةٍ هو أمرٌ ضروريٌّ. ومن المهمّ كذلك أن تدرك الشّركات أنّ بعض الأزمات قد تتسبّب في مسؤوليّاتٍ قانونيّةٍ، ولهذا ينصح بالحصول على استشارةٍ قانونيّةٍ قبل إصدار أي بياناتٍ، لضمان صياغة الرّسائل بما يتماشى مع الموقف القانونيّ وتحمّل المسؤوليّة.
وفي جميع الأزمات، يجب أن يكون هناك شخصٌ واحدٌ فقط مفوّضٌ لإصدار التّصريحات العامّة أو الإعلاميّة، وهو المتحدّث الرّسميّ المعتمد باسم الشّركة. ولا يجب أن يصدر أيّ شخصٍ آخر بياناتٍ لتجنّب تضارب الرّسائل. في الوقت نفسه، ينبغي أن يكون لدى الشّركة، كجزءٍ من وظيفة الاتّصال والعلاقات العامّة، خطّةٌ واضحةٌ للتّواصل مع وسائل الإعلام التّقليديّة والرّقميّة ذات الصّلة، ومواصلة تزويدهم بالمعلومات وتثقيفهم، حتّى بدون وجود أزمةٍ. هذا النّوع من العلاقات يصبح ذا أهميّةٍ كبيرةٍ وقت الأزمات؛ لأنّه يتيح تواصلاً حقيقيّاً وفعّالاً مع الجمهور ويحدّ من انتشار المعلومات الكاذبة.
وبحسب طريقة نشوء الأزمة، يمكن أن تقتصر الرّسائل على قنوات التّواصل الرّقميّ الخاصّة بالشّركة، مثل: وسائل التواصل الاجتماعي والموقع الإلكترونيّ، أو قد يُستدعى الأمر إلى إصدار بيانٍ إعلاميٍّ في حال تغطية الأزمة إعلاميّاً. ويعتمد أسلوب الرّسائل على نوع الأزمة، إلّا أنّ المبدأ العام يتمثّل في أن تكون الرّسائل متعاطفةً، واضحةً، منتظمةً، وقابلةً للتّنفيذ، ممّا يمنح النّاس الثّقة بأنّ الشّركة تتصرّف بشفافيّةٍ وتسعى لحلّ الأزمة بجديّةٍ.
بناء خطة اتصال خاصة بالأزمات
يجب أن تكون كلّ شركةٍ مستعدّةٍ دائماً للأزمات من خلال امتلاك عدّة أزماتٍ تُتيح التّشخيص السّريع والتّحرّك الفوريّ، وتمكّن الشّركة من التّصرّف بمصداقيّةٍ وإظهار المسؤوليّة.
يحمل العصر الرّقميّ الحالي وجهين: فمن جهة، يتيح للشّركات الاستجابة السّريعة وتوصيل رسائلها بسهولةٍ، لكنّه أيضاً يُعرّضها لضغطٍ شديدٍ؛ فكلّ تأخيرٍ في الرّدّ يغذّي الأزمة أكثر بفعل تدفّق المعلومات المتسارع. وهذا يعني أنّ الشّركات بحاجةٍ لأن تكون مستعدّةً دوماً بمحتوى رسائلها لكلّ سيناريو محتملٍ حتّى تضمن استجابةً فعّالةً وسريعةً. ونظراً لأنّ التّحرّك السّريع أمرٌ محوريٌّ، فإنّ وجود بروتوكول اتّصال بالأزمات هو أمرٌ بالغ الأهميّة، ويجب أن يشمل أدواراً ومسؤوليّاتٍ واضحةً وخطّة عملٍ مفصّلةً للتّعامل مع المواقف الطّارئة.
أهمية التخطيط للسيناريوهات المتوقعة
يتعيّن أن تتضمّن خطة الاتّصال بالأزمات تمريناً على تخطيط السّيناريوهات المختلفة، عبر تصنيف المواقف المحتملة ووضع ردٍّ أو خطّة عملٍ واضحةٍ لكلٍّ منها. ويجب أن يشمل ذلك التواصل الداخلي والخارجيّ على حدٍّ سواء؛ فاهتمام الشّركات بالاتّصال الدّاخليّ يجب أن يكون مساوياً لاتّصالها الخارجيّ، لضمان مشاركة الموظفين وتفادي الإحباط أو فقدانهم.
إطار حوكمة واضح
ينبغي أن تتضمّن خطّة الاتّصال بالأزمات إطاراً حوكميّاً يوضّح الأدوار والمسؤوليّات بوضوحٍ، حتّى تتمكّن فرق العمل من التّحرّك بسرعةٍ وفهم ما يجب عليهم فعله دون ارتباكٍ.
الاستماع الرقمي وتحليل المشاعر
من الضّروري لكلّ شركةٍ أن تراقب نبض السّوق وردود الفعل تجاه علامتها التّجاريّة، سواء كانت إيجابيّةً أو سلبيّةً، وذلك لقياس مدى قوّة السّمعة والانخراط الّذي تبنيه الشّركة مع جمهورها. ومن الأدوات الفعّالة في هذا السّياق "الاستماع الرقمي"، الّذي يساعد الشّركات على فهم الحديث الدّائر حول علامتها التّجاريّة وحملاتها على وسائل التّواصل الاجتماعيّ، ويقدّم مؤشّراتٍ لقياس الانطباعات الإيجابيّة مقارنةً بالسّلبيّة. كما يجب أن يقترن هذا برصدٍ إعلاميٍّ مستمرٍّ، حتّى لا يُفوت شيءٌ من التّغطيات على مختلف القنوات الإعلاميّة، وضمان صورةٍ شاملةٍ للحوار العامّ حول العلامة.
حين تُدار الأزمة بشكل سليم
قد يستغرق استعادة الثّقة بعض الوقت، لكن الاتّساق والشّفافيّة هما الأساس. ومن الضّروري الوفاء بالوعود الّتي قُدمت في رسائل الرّدّ على الأزمة لإظهار أنّ الشّركة جادة في تصحيح المسار. كما أنّ عرض الإجراءات الّتي تمّ اتخاذها، سواء في سياق الأزمة أو بشكلٍ عامٍّ عبر عمليّات التّشغيل المختلفة، ضروريٌّ لبناء الثّقة مجدّداً. علاوة على ذلك، فإنّ عنصراً أساسياً في هذا هو بناء الثّقة لدى موظّفي الشّركة، فهم يشكّلون خطّ الدّفاع الأوّل لأيّ مؤسّسةٍ.
ومن الأمثلة المميّزة في إدارة الأزمات، ما قامت به إحدى المخابز الشّهيرة في مصر، حينما وقّعت عدّة حالات تسمّمٍ غذائيٍّ ناتجةٍ عن منتجاتها. تحرّكت الإدارة بسرعةٍ وأصدرت بياناً يُعرب عن الأسف ويُظهر تعاطفاً وفهماً، مع إقرار كامل بالمسؤوليّة، ثم بادرت بإغلاق جميع الفروع طواعية لإجراء مراجعةٍ شاملةٍ لعمليّاتها ومعالجة أسباب تلك الحوادث، قبل أن تُعيد فتحها لاحقاً وتستمر بنجاحٍ حتّى اليوم.
وفي مثالٍ آخر شهير، واجهت شركة "بوينغ" (Boeing) في عام 2019 أزمةً حادّةً بعد وقوع حادثتين مأساويتين لطائرتها من طراز 737 MAX، إذ علّقت السّلطات حول العالم استخدام هذا الطّراز، ممّا شكّل ضربةً قاسيةً لسمعة الشّركة. كما واجهت بوينغ دعاوى قضائيّةً، وتحقيقاتٍ حكوميّةً، وفقداناً واسعاً للثّقة من قبل شركات الطّيران والمستهلكين. وردّت الشّركة بإجراء مراجعةٍ شاملةٍ لبروتوكولات السّلامة، وإعادة تصميم نظامٍ MCAS المتسبّب في الحوادث، كما تعاونت مع الجهات التّنظيميّة -مثل إدارة الطيران الفيدرالية الأمريكية (FAA)- للحصول على إعادة ترخيصٍ للطّائرة. وأعلنت التزامها بتحسين الشّفافيّة مع الطّيارين وشركات الطّيران، وأدخلت تدريباتٍ جديدةً لضمان الجاهزيّة. ورغم التّحديّات الكبيرة، أعادت بوينغ ضبط استراتيجيّتها وواصلت طريقها.
الختام: الاتصالات في الأزمات ليست خياراً
في زمنٍ يمكن أن تُبنى أو تُهدم فيه السّمعة بسرعة تغريدةٍ، لم تعد إدارة الأزمات خياراً إضافيّاً. إذ ينبغي على الشّركات الاستعداد بشكلٍ استباقيٍّ من خلال تطوير بروتوكولات اتّصالٍ فعّالةٍ، وتمارين تخطيط للسّيناريوهات، وأطرٍ داخليّةٍ قويّةٍ للتّواصل، لضمان التّنقّل بفعاليّةٍ في الأزمات بروحٍ من التّعاطف والسّرعة والمصداقيّة. ومن خلال الالتزام بالشّفافيّة والتّصرّف باستقامةٍ، يمكن للشّركات أن تضمن جاهزيّتها في حال وقوع الأزمة.
عن الكاتبة
داليا وهبة هي رائدة أعمالٍ مصريّةٌ، تشغل منصب الشّريك المؤسّس في شركة (CID Consulting)، وهي شركة استشاراتٍ في مجالات الإدارة والتّنمية، تعمل في مصر وتمتدّ بخدماتها إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأمريكا الشّماليّة وأوروبا. تتميّز الشّركة بكونها حاصلةً على جوائز عديدةٍ، وقد صمّمت ونفّذت مشروعاتٍ قوميّةً بارزةً في مجالات النّموّ الاقتصاديّ والتّنمية البشريّة والاستدامة. تلعب وهبة دوراً محوريّاً في وضع استراتيجيّات التّسويق والاتّصال للهيئات الحكوميّة والمنظمات الدّولية، مثل: مجموعة البنك الدولي والاتّحاد الأوروبيّ، بالإضافة إلى شركات القطّاع الخاصّ. تمتدّ خبراتها عبر التّخطيط الاستراتيجيّ، والشّراكات بين القطّاعين العامّ والخاصّ، والتّسويق والاتّصال، وتصميم وتنفيذ مبادرات الاستدامة والتّحوّل المؤسّسيّ في قطّاعاتٍ متعددةٍ. وتشغل حالياً منصب رئيس لجنة التّسويق في الغرفة التّجارية الأمريكيّة في مصر (AmCham Egypt)، كما أنّها عضوٌ في المجلس الاستشاريّ الاستراتيجيّ لكلية الأعمال بجامعة أونسي ساويرس في الجامعة الأمريكيّة بالقاهرة، وعضوٌ في المجلس الاستشاريّ لبرنامج مصر في معهد الشّرق الأوسط بواشنطن العاصمة. وقد شغلت سابقاً منصب نائب الرّئيس التّنفيذيّ لـ AmCham Egypt بين عامي 2019 و2021، وشاركت في عدّة بعثاتٍ يقودها القطّاع الخاصّ إلى الولايات المتّحدة بهدف تعزيز العلاقات الأمريكيّة-المصريّة وتحسين صورة مصر عالميّاً.