العقلية السامة في العمل: كيف تتعرّف إليها قبل أن تُصيبك؟
تكشف العقليّة السّامّة عن الوجه الخفيّ لبيئات العمل الحديثة، ذلك الوجه الّذي لا يقاس بالإنتاجيّة أو الأرقام، بل بنبض المشاعر الّتي تسكن الموظّفين

في بيئات العمل الحديثة الّتي تتسارع فيها وتيرة المنافسة وتتقاطع فيها الأدوار والاختصاصات، لم يعد النّجاح يقاس بالكفاءة التّقنيّة أو الالتزام بالمهامّ فحسب، بل أصبح يحدّد بنمط التّفكير الّذي يوجّه سلوك الأفراد ويصوغ طريقة تفاعلهم مع محيطهم المهنيّ. فبينما تسهم العقليّة الإيجابيّة في بناء بيئةٍ محفّزةٍ ومنتجةٍ تشجّع التّعاون وتغذّي روح الثّقة، تدمّر العقليّة السّامّة ما يبنى من استقرارٍ وانسجامٍ في لحظةٍ واحدةٍ. فهي لا تظهر خطرها فجأةً، بل تتسلّل ببطءٍ إلى داخل الفرق، وتبثّ الشّكّ والإحباط وفقدان الحافز كسمٍّ خفيٍّ ينتشر دون أن يلاحظ في البداية. ومع مرور الوقت، تحوّل هذه العقليّة بيئة العمل من مساحةٍ للإبداع والتّكامل إلى ساحةٍ متوتّرةٍ يغلب عليها التّنافس السّلبيّ وانعدام الثّقة.
ولا تتعلّق العقليّة السّامّة بشخصٍ واحدٍ بقدر ما تعبّر عن أسلوب تفكيرٍ معدٍّ يمكن أن ينتقل من موظّفٍ إلى آخر كما تنتقل العدوى في الجسد السّليم. ولأنّ أثرها عميقٌ ومتدرّجٌ، تبرز الحاجة الملحّة إلى فهم طبيعتها واكتشاف مظاهرها والتنبّه إلى إشاراتها المبكرة قبل أن تصيب الفريق بأكمله وتنهك المؤسّسة من الداخل.
ما المقصود بالعقلية السامة في العمل؟
تشير العقليّة السّامّة إلى نمطٍ ذهنيٍّ قائمٍ على التّشاؤم والسّلوكيّات السّلبيّة والتّفاعل المسموم الّذي يضعف روح الفريق، ويحدّ من الإنتاجيّة، ويزرع التّوتّر وعدم الثّقة في المؤسّسة. وتتجلّى مظاهرها في سلوكيّاتٍ متعدّدةٍ، منها الانتقاد المستمرّ، ورفض تحمّل المسؤوليّة، وإلقاء اللّوم على الآخرين، ونشر الشّائعات، والتّقليل من إنجازات الزّملاء بدل الاحتفاء بها.
ولا تعدّ هذه العقليّة مجرّد ردّ فعلٍ عابرٍ على موقفٍ مؤقّتٍ، بل هي طريقة تفكيرٍ ثابتةٌ تحكم صاحبها وتؤثّر في بيئته بشكلٍ مستمرٍّ؛ فالشّخص الّذي يتبنّاها يرى النّجاح محدوداً، ويعتبر تقدّم الآخرين تهديداً له لا مصدراً للإلهام. وبمرور الوقت، تتحوّل نظرته هذه إلى طاقةٍ سلبيّةٍ تضعف التّواصل، وتزيد من حدّة الصّراعات، وتغلق أبواب الحوار داخل الفريق. [1]
العقلية السامة في العمل: كيف تتعرف إليها قبل أن تصيبك؟
وتتجلّى ملامح هذه العقليّة في الممارسات اليوميّة الّتي تمرّ دون انتباهٍ. فصاحبها يكثر من عباراتٍ مثل: «لن ينجح هذا أبداً» أو «لا فائدة من المحاولة»، ويقلّل من إنجازات الآخرين بدل أن يشجّعهم. كما يظهر حساسيّةً مفرطةً تجاه النّقد البنّاء، فيفسّر الملاحظات المهنيّة كإهاناتٍ شخصيّةٍ. ومع مرور الوقت، تحوّل هذه السّلوكيّات العمل الجماعيّ إلى ساحة تنافسٍ عقيمٍ تقدّم فيها المصلحة الفرديّة على الهدف المشترك.
ويزداد الخطر حين يبدأ بقيّة الزّملاء بتبنّي هذه الأنماط دون وعيٍ، فتضعف روح التّعاون، وتستبدل ثقافة الدّعم المتبادل بروح المقارنة والشّكّ. ومن ثمّ، يصبح اكتشاف هذه العقليّة مبكّراً ضرورةً لا ترفاً، إذ يصعب علاجها بعد أن تتغلغل في النّسيج التّنظيميّ. لذلك، يستحسن مراقبة الحوار اليوميّ داخل الفريق، والانتباه لنبرة الكلام، وطريقة التّعامل مع النّقد، ونظرة الأفراد إلى نجاح زملائهم أو فشلهم. فعندما تتراجع لغة الاحترام لتحلّ محلّها السّخريّة، ويستبدل التّحسين بالتّبرير، فهذه العلامات كافيةٌ لتدلّ على بدء العدوى الفكريّة في الانتشار.
ولكي يحمي الفرد نفسه من التّأثر بهذه السّموم الفكريّة، عليه أن يبني وعيه الذّاتي أولاً، وأن يراجع مشاعره بعد كلّ تفاعلٍ في العمل؛ فإذا شعر بأنّ الاجتماعات أصبحت مصدر توترٍ دائمٍ أو أنّ الحوارات تُضعف حماسه بدل أن تُلهمه، فذلك مؤشرٌ على وجود طاقةٍ سلبيةٍ خفيةٍ يجب مواجهتها. كما أنّ الوقاية من العقليّة السّامة لا تعتمد فقط على تجنّب أصحابها، بل على الحفاظ على صفاء الذّهن، والانفتاح، والقدرة على رؤيّة المواقف من زوايا متعددةٍ دون السّماح للخوف أو الشّكّ أن يسيطر. بهذه الطّريقة، يحافظ الفرد على طاقته الإيجابية ويُسهم في تحصين بيئة العمل ضد العدوى الّتي قد تُصيب حتى أكثر الفرق تماسكاً. [2]
كيف تنتقل العقلية السامة داخل الفريق؟
لا تنتقل العقليّة السّامّة بالكلمات فقط، بل بالمشاعر الّتي ترافقها؛ فحين يرى الموظّفون أنّ السّلوكيّات السّلبيّة تمرّ بلا محاسبةٍ، يبدأ بعضهم في تقليدها أو التّكيّف معها بدافع البقاء في بيئةٍ مضطربةٍ. ومع مرور الوقت، تنتقل العدوى من شخصٍ إلى آخر حتّى تصبح جزءاً من الثّقافة اليوميّة غير المعلنة.
وتسهم القيادة الضّعيفة في تسريع هذا الانتشار، خصوصاً حين تتغاضى عن الظّواهر السّلبيّة أو تكافئ الأداء الفرديّ على حساب الانسجام الجماعيّ. عندئذٍ، يشعر الموظّفون بأنّ القيم المؤسّسيّة مجرّد شعاراتٍ لا معنى لها، فيفقدون الثّقة بالنّظام ويجنحون نحو فكرة "النّجاة الفرديّة" بدلاً من التّعاون الجماعيّ، لتتحوّل بيئة العمل إلى جزرٍ منفصلةٍ لا يجمعها سوى التّنافس والشّكّ.
الخاتمة
تكشف العقليّة السّامّة عن الوجه الخفيّ لبيئات العمل الحديثة، ذلك الوجه الّذي لا يقاس بالإنتاجيّة أو الأرقام، بل بنبض المشاعر الّتي تسكن الموظّفين؛ فعندما تنتشر هذه العقليّة، تذبل روح الفريق، ويخبو الإبداع، وتتحوّل المؤسّسة إلى مساحةٍ يثقلها التّعب النّفسيّ بدل أن تنعشها روح الحماس. غير أنّ الوعي المبكّر بوجودها، والقدرة على اكتشافها قبل أن تتجذّر، يمكّنان القادة والأفراد من بناء ثقافةٍ صحيّةٍ قائمةٍ على الثّقة والاحترام والتّواصل الإيجابيّ.
-
الأسئلة الشائعة
- ما الفرق بين السلوك السلبي والعقلية السامة في بيئة العمل؟ قد يكون السّلوك السّلبيّ تصرّفاً مؤقّتاً ناتجاً عن ضغطٍ أو موقفٍ محدّدٍ، بينما العقلية السامة هي نمط تفكيرٍ دائمٌ يؤثّر في الشّخص ومن حوله بشكلٍ مستمرٍّ، وينشر الطّاقة السّلبيّة داخل الفريق، ممّا يؤدّي إلى ضعف التّعاون وتراجع الثّقة والإنتاجيّة.
- كيف يمكن للمدير اكتشاف وجود عقلية سامة داخل الفريق؟ يستطيع المدير ملاحظة ذلك من خلال مراقبة الحوار اليوميّ، والانتباه لتكرار النّقد غير البنّاء أو الشّكوى المستمرّة أو انتشار السّخريّة بين الأفراد. كما يمكن استخدام تقييمات الأداء الجماعيّ وملاحظات الزّملاء لاكتشاف التّوترات المبكّرة.