هل السرعة في الذكاء الاصطناعي تقوض نجاح ريادي الأعمال؟
في زمن الذكاء الاصطناعي، يواجه روّاد الأعمال تحديّاتٍ تتعلّق بالتّوازن بين الكفاءة السّريعة واتّخاذ قراراتٍ مدروسةٍ، فما تأثير ذلك على مستقبل العمل؟

في عالم الأعمال، هل تعدّ السّرعة مفتاح النّجاح أم أنّها ليست كذلك حقّاً؟ مؤخّراً، طرح عليّ أحد طلّابي سؤالاً أثار تفكيري، وأعاد تشكيل نظرتي لمفهوم الإنتاجيّة في عصر الذكاء الاصطناعي، ولما يعنيه ذلك لروّاد الأعمال، إذ جاء السّؤال كما يلي: "في المستقبل، هل سأعاقب لأنّني أنجز عملي يدويّاً، وأستغرق وقتاً أطول مقارنةً باستخدام الذكاء الاصطناعي؟"
يتعيّن على القادة والمدراء والمؤسّسين مواجهة هذا السّؤال بأنفسهم ومع فرقهم، ففي زمنٍ تصبح فيه السّرعة الوضع الافتراضيّ، هل نفقد بذلك عمق التّقدّم والمعنى الحقيقيّ للعمل؟
الذكاء الاصطناعي: مقياس جديد لروّاد الأعمال
أظهرت دراسةٌ استقصائيّةٌ حديثةٌ أنّ 98% من الشّركات الصّغيرة تستخدم أدواتٍ مدعومةً بالذكاء الاصطناعي، وهو رقمٌ ضخمٌ ليس من فراغٍ، فإنّ الذكاء الاصطناعي التوليدي قويٌّ، وتتّسع إمكانيّاته يوماً بعد يومٍ. إذ يستخدم حوالي 40% من هذه الشّركات أدواتٍ توليديّةً مدعومةً بالذكاء الاصطناعي، مثل: "شات جي بي تي" (ChatGPT)، و"بارد" (Bard)، و"كوبايلوت" (Copilot)، و"جيميني" (Gemini)، والّتي أحدثت ثورةً في طرق العمل لدى القادة والموظّفين على حدٍّ سواءٍ، فهي تمكّن المؤسّسين من صياغة مقترحات الأعمال، وتنقيح العروض التّقديميّة، وتحليل أبحاث السّوق، وتوليد أفكار حملاتٍ تسويقيّةٍ في ثواني معدّدةٍ، وليس حتّى دقائق.
ولكن يكمن التّحدّي في هذا السّياق: إذا قرّر رائد الأعمال أن يستثمر وقتاً إضافيّاً لصقل استراتيجيّةٍ معيّنةٍ -سواءً بإضافة لمسات تواصلٍ شخصيّةٍ أو بالتّأكّد من انسجام كلّ تفصيلٍ مع قيم العلامة التّجاريّة- هل سينظر إلى هذا الجهد على أنّه "غير فعّالٍ" مقارنةً بخطّةٍ تُنتَج بسرعةٍ من خلال الذكاء الاصطناعي؟
ولا تقتصر هذه الظّاهرة على قطّاع التّكنولوجيا فحسب، بل إنّ الأدوات القائمة على السّرعة تُعيد تعريف مفهوم العمل الفعّال في مختلف الصّناعات تقريباً. وهنا يتعيّن على قادة الأعمال أن يتساءلوا: هل نحسّن الأداء من حيث السّرعة فقط، أم نولّي الأهمّيّة للجودة، وهل يمكننا تحقيق التّوازن بين الاثنين معاً؟
في السّابق، كانت الكفاءة تعني تحديد الأولويّات بعنايةٍ واستغلال الوقت بأفضل شكلٍ دون المساس بالإبداع، أمّا اليوم، فهل تقاس الكفاءة بالسّرعة المطلقة؟ إذ إنّ تسارع الوتيرة قد يجعلنا نبدو بطيئين في أعين من يقدّرون التّفاصيل الدّقيقة والحرفيّة في العمل.
وبصفتي معلّماً، تأمّلت في هذا الموضوع شخصيّاً، إذ لاحظت أنّ أنظمة المدارس من الصّفّ الأوّل وحتّى الصّفّ الثّاني عشر تشجّع على استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لتوليد خطط الدّروس والاستراتيجيّات. وبينما تقدّم هذه الأدوات نتائج متميّزةً، يرى بعض المعلّمين أنّ اللّمسة الشّخصيّة في الدّرس تخلق جسراً من التّواصل الحقيقيّ مع الطّلّاب داخل الصّفّ. ومع ذلك، يطرح السّؤال: هل سيعتبر المعلّمون الّذين يستغرقون وقتاً إضافيّاً في إعداد دروسهم متأخّرين مع مرور الزّمان؟
وفي سياقٍ متماثلٍ، يواجه روّاد الأعمال تحدّياتٍ مشابهةً، فبينما يسعى بعض الرّؤساء التّنفيذيّين لاستخدام الذكاء الاصطناعي لصالحهم، يشعر روّاد الأعمال بأهمّيّة صياغة عروضٍ تقديميّةٍ شخصيّةٍ للمستثمرين أو إعداد مواد دعائيّةٍ تتناسب مع خصوصيّة أعمالهم واحتياجات عملائهم. ورغم أنّ ذلك قد يستغرق وقتاً أطول، إلّا أنّ الدّقّة والنّيّة في العمل تبني الثّقة، وتثمر عن نتائج طويلة الأمد. والسّؤال هنا: هل ستعاقب أماكن العمل المستقبليّة المؤسّسين الّذين يأخذون وقتهم الكافي لضمان الجودة وإضفاء الطّابع الشّخصيّ؟
شاهد أيضاً: أفضل أدوات الكتابة بالذكاء الاصطناعي في عام 2023
العنصر البشريّ الذي لا يستبدل
بينما يقوم الذكاء الاصطناعي بصياغة النّصوص وإجراء تحليلات البيانات بدقّةٍ، فإنّه حتّى الآن لا يستطيع محاكاة الحدس البشريّ أو التّعاطف أو اتّخاذ القرارات الّتي يتميّز بها روّاد الأعمال. رغم أنّنا نقترب من تلك المرحلة، وتتحسّن التّكنولوجيا مع كلّ يومٍ يمرّ، إلّا أنّ الذكاء الاصطناعي التوليدي يقدّم مستوى جديداً من الكفاءة، وقد يسهّل توليد الأفكار بشكلٍ فعّالٍ جدّاً في بعض الحالات.
مؤخّراً، حذّرت كبرى شركات الذكاء الاصطناعي من مخاطر محتملةٍ ومخاوف بشأن تهديداتٍ وجوديّةٍ، ومع ذلك فإنّها تواصل توسيع نطاقها، في حين يتلهّف المستهلكون للوصول إلى أحدث التّطوّرات.
وعلى مستوىً أدقّ، ليس العرض التقديمي الرّائع مجرّد سردٍ لنقاطٍ محدّدةٍ، بل هو قصّةٌ تلهم المستثمرين أو إعلانٌ يتواصل بصدقٍ مع المستهلكين. فمن منا لا يقدّر إعلاناً يلامس مشاعرنا، ويبسّط المفاهيم المعقّدة إلى أبسط العبارات؟ إنّ تجربة العميل المتميّزة لا تقتصر على الدّردشة، بل هي اتّصالٌ حقيقيٌّ، ويصبح التميّز فيها تحدّياً مع تحسّن أدوات الدّردشة الّتي باتت قادرةً على تقليد أيّ نبرةٍ تقريباً، وينطبق الشّيء نفسه على الفصول الدّراسيّة، فالارتباط الشّخصيّ يعتبر جوهر النّجاح.
ومع ذلك، عندما يعتاد أصحاب المصالح على النّتائج السّريعة الّتي يقدّمها الذكاء الاصطناعي، قد يضطرّ روّاد الأعمال إلى تبرير الوقت الإضافيّ الّذي يقضونه في تحسين أعمالهم، فهل سيعتبر العمل الّذي يستغرق وقتاً أطول غير ضروريٍّ من قبل المستثمرين أو الشّركاء أو المشرفين، عندما تُعدّ نتائج الذكاء الاصطناعي مرضيةً بما يكفي.
من السّرعة إلى الفعاليّة: إعادة تعريف النّجاح في عصر الذكاء الاصطناعي
إنّ المفتاح ليس في مقاومة الذكاء الاصطناعي -وهو السّبب وراء استخدام العديد من الشّركات الصّغيرة لهذه التّكنولوجيا- بل في إعادة صياغة معايير النّجاح، فقد أحدثت الابتكارات السّابقة ثورةً في صناعاتٍ، مثل الموضة والرّعاية الصّحيّة والتّجزئة والتّكنولوجيا، والآن يستدعي عصر الذكاء الاصطناعي إعادة معايير الإنتاجيّة. وإليكم بعض الخطوات لضبط المعايير في هذا العصر الجديد:
- اختيار متى يجب أن تنتصر السّرعة: تستفيد المهامّ الرّوتينيّة -مثل إعداد تقارير البيانات أو تدوين ملاحظات الاجتماعات- بشكلٍ كبيرٍ من الأتمتة.
- تشجيع التّخطيط الدّقيق في الأوقات المهمّة: يجب تحديد الأوقات الّتي تتطلّب إعداد عروض المستثمرين والعناصر الموجّهة للعملاء بصياغةٍ مدروسةٍ بعنايةٍ شخصيّةٍ.
- تقدير قيمة الوقت الإضافيّ: غالباً ما يحقّق روّاد الأعمال -الّذين يستثمرون وقتاً إضافيّاً في بناء ثقافةٍ مؤسّسيّةٍ وروابط شخصيّةٍ- عوائد كبيرةً وفريدةً.
إعادة تعريف مفهوم "الوقت" حاليّاً
ما معنى أن تكون الأمور "في وقتها" حقّاً في هذا العصر؟ قد تكون السّرعة ضروريّةً للعمليّات الرّوتينيّة وملخّصات الاجتماعات، ولكن من المهمّ للقادة أن يسمحوا لأنفسهم بأن يستغرقوا وقتاً إضافيّاً لصقل العمل بهدف بناء علاقاتٍ أعمق، وتحفيز الإبداع والابتكار، وكسب ثقة أصحاب المصالح، فالهدف هو تمكين الذكاء الاصطناعي من التّعامل مع المهامّ اليوميّة والمتكرّرة، حتّى يتمكّن الإنسان من التّركيز على التّميّز وبناء اتّصالاتٍ حقيقيّةٍ؛ لأنّ الرّوابط الشّخصيّة في نهاية المطاف هي الّتي تحدث الفارق.
النّجاح في عصر الكفاءة الفائقة
لا يقتصر مفهوم الكفاءة الفائقة فقط على إنجاز المزيد في وقتٍ أقلّ، بل يعني أيضاً معرفة متى يجب عدم الاستعجال. أمام روّاد الأعمال خيارٌ صعبٌ، أو بالأحرى تحدٍّ يتطلّب موازنةً دقيقةً، فهل نبني مشاريع توازن بين الكفاءة والتّنفيذ المدروس، أم نطارد السّرعة على حساب الجوهر؟ وهذا يتماشى مع النّظريّة القائلة "الإنجاز أفضل من الكمال".
تذكّر دوماً أنّ الشّركات الّتي تتميّز لا تقاس بالسّرعة فقط، بل بالقدرة على الاستمرار والتّأثير العميق. فما الفرق بين الجيّد بما فيه الكفاية والتّميّز الحقيقيّ؟ أحياناً، يكمن الفرق في مجرّد أخذ الوقت الكافي للقيام بالأمور بالطّريقة الصّحيحة.