الرئيسية الذكاء الاصطناعي ليلة سقوط Builder.ai: انهيار يونيكورن الذكاء الاصطناعي

ليلة سقوط Builder.ai: انهيار يونيكورن الذكاء الاصطناعي

بلغ تقييمها مليار دولار وارتبط اسمها بشراكة كبرى مع مايكروسوفت ، مجّدتها الصحف كصوت المستقبل، لكنها انهارت أمام أوّل تدقيقٍ ماليٍّ حقيقيٍّ

بواسطة فريق عربية.Inc
images header

وُلِدَت شركة Builder.ai في عام 2016 وسط ضجيجٍ طموحٍ يَعِدُ بثورةٍ في عالم تطوير البرمجيات. شعارُها المُعلَن: "دع الذّكاء الاصطناعيّ يبني لك تطبيقك". بدا المشروع وكأنّه الجسر المُنتظر الذي سيعبرُ فوق وادي التّكلفة التّقنيّة، ليمنح صغار الشركات منصّةً لصناعة برمجياتهم دون مبرمجين وبـ"كبسة زر". كانت الرّؤية خلّابة، فاستقطبت أكثر من 450 مليون دولار من التّمويل، من بينها ضخٌّ معتبرٌ من Microsoft وجهاز قطر للاستثمار. وبحلول 2023، تجاوزت الشّركة عتبة الـ مليار دولار تقييماً  [1].

لكنّ للضوء ظلّه...وفي 20 مايو 2025، قلبت المفاجأة المشهد؛ جمّدت شركة Viola Credit ما يقرب من 37 مليون دولارٍ من حسابات (Builder.ai)، بعد اكتشاف خللٍ ماليٍّ عميقٍ، فعجزت الشّركة عن دفع الرّواتب وسداد الدّيون، وبدأت إجراءات الإعسار رسميّاً [2].

وكشفت التّحقيقات خيوط التّصدّع: ضخّمت الشّركة أرقام مبيعات عام 2024 من 50 مليوناً إلى 220 مليون دولارٍ – أي بزيادةٍ تفوق 300٪ – فقط لإقناع دائنٍ بتمويلٍ طارئٍ [3] . كما اضطرّت إلى خفض أرقام 2023 من 180 مليوناً إلى 45 مليوناً بعد مراجعةٍ محاسبيّةٍ داخليّةٍ [4].

لتسقط الأزمة القناع الأبرز: لم تعتمد المنصّة على الأتمتة كما زعمت، بل أسندت أكثر مشاريعها إلى مئات المطوّرين منخفضي الأجر الّذين نفّذوا العمل يدويّاً، ما التهم الهوامش وتعارض مع وعد الذّكاء الاصطناعيّ الّذي روّجت له [6].

فشلت الشّراكة مع Microsoft في إنقاذ الثّقة. ولم يستطع التّمويل الوفير أن يخفي التّناقض البنيويّ بين الرّواية التّسويقيّة والواقع التّشغيليّ [5].

وأثبت السّقوط أنّ الشّركة الّتي تبني سمعتها على واجهةٍ ذكيّةٍ دون أساسٍ اقتصاديٍّ، تخاطر بأن يتحوّل النّموّ إلى فقاعةٍ، والشّراكة إلى واجهةٍ، والذّكاء الاصطناعيّ إلى مجرّد ديكورٍ.

 كيف غذّى الخوف من الفوات فقاعة الذّكاء الاصطناعيّ؟

ضخّ المستثمرون أموالهم في شركات الذّكاء الاصطناعيّ كما لو كانوا يلاحقون قطاراً يوشك أن يفوتهم. ودفعت حالة "FOMO" – الخوف من فوات الفرصة – الأسواق إلى ضخّ استثماراتٍ غير مسبوقةٍ دون تمحيصٍ كافٍ، وكأنّ كلّ شركةٍ تحمل كلمة "AI" تستحقّ المغامرة.

أظهرت بيانات PitchBook أنّ أكثر من 58٪ من إجماليّ رأس المال الجريء العالميّ في الرّبع الأوّل من عام 2025 ذهب إلى شركات الذّكاء الاصطناعيّ، مقارنةً بـ 28٪ فقط في العام الّذي سبقه [7].

ضاعف المستثمرون رهاناتهم على القطاع خلال أشهرٍ معدودةٍ، لا لأنّ كلّ مشروعٍ كان واعداً، بل لأنّ أحداً لم يرد أن يتخلّف عن الموجة.

رصد تقريرٌ من ComplexDiscovery كيف خصّصت بعض الصّناديق الاستثماريّة نصف محافظها بالكامل لشركات "AI" خلال أسابيع قليلةٍ، استجابةً لموجة حماسٍ جماعيٍّ، لا لتحليلٍ عقلانيٍّ [8].

أطلق محلّلو Fast Company على هٰذه الظّاهرة اسم "Zombie-corns" – في إشارةٍ إلى أكثر من 1200 شركة "يونيكورن"، تلتهم السّيولة دون أن تمتلك طريقاً واضحاً إلى الرّبحيّة، مدعومةً بتقييماتٍ خياليّةٍ لٰكنّها تفتقر إلى النّموّ الحقيقيّ [9] [10].

نبّه المستثمر المخضرم ستيف كايس إلى أوجه التّشابه بين هٰذه الموجة وبين فقاعة الدّوت-كوم في مطلع الألفيّة، محذّراً من تصحيحٍ قاسٍ سيقصي كلّ من لا يقدّم قيمةً حقيقيّةً. أشار إلى أنّ الذّكاء الاصطناعيّ يمرّ الآن بمرحلة الافتتان الجماعيّ ذاتها، والّتي تؤدّي غالباً إلى التّهوّر ثمّ الانهيار [11].

لم تغذّ فقاعة "AI" مجرّد رؤوس الأموال، بل غذّتها الرّغبة في عدم البقاء خارج اللّعبة. فقد انطلقت الشّركات إلى التّسويق قبل أن تـنهـي بناء منتجاتها، وانجرف المستثمرون خلف الشّعارات دون التّثبّت من الأسس.

تحوّلت حالة FOMO من محفّزٍ استراتيجيٍّ إلى عدسةٍ مشوّشةٍ، جعلت الجميع يرون ما يريدون رؤيته… لا ما هو موجودٌ بالفعل.

خمس إشاراتٍ تحذيريّةٍ تكشف الذّكاء الاصطناعيّ بلا عائدٍ

لا تخطئ جميع الشّركات النّاشئة حين تتبنّى الذّكاء الاصطناعيّ، ولٰكنّ الخطر يبدأ حين يصبح "الذّكاء الاصطناعيّ" هو المنتج بحدّ ذاته، لا وسيلةً لتقديم قيمةٍ حقيقيّةٍ.

في حالة (Builder.ai)، لم يقع الانهيار فجأةً، بل ظهرت علامات إنذارٍ مبكّرةٌ يمكن لأيّ مستثمرٍ أو رائد أعمالٍ أن يلاحظها لو أمعن النّظر. وهٰذه خمس إشاراتٍ تحذيريّةٍ متكرّرةٍ، كشفت أنّ الشّركة كانت تلمع أكثر ممّا تنمو:

1. تضخيم الإيرادات

ادّعت (Builder.ai) أنّ مبيعاتها في عام 2024 بلغت 220 مليون دولارٍ، بينما كانت الحقيقة أنّها لم تتجاوز 50 مليوناً. رفعت الرّقم بـ نسبة 300٪ فقط لتقنع جهةً مانحةً بتمويلٍ عاجلٍ [3]. هٰذه ليست حركةً تسويقيّةً، بل مجازفةٌ تهدم الثّقة من الجذور، وتخفي أزمة سيولةٍ قادمةً لا محالة.

2. نموذج الرّبح الغامض: منتجٌ جميلٌ… لٰكن لا يربح

اعتمدت الشّركة في تنفيذ المشاريع على مئات المطوّرين ذوي الأجور المنخفضة، بدلاً من أتمتة العمليّة كما وعدت [6]. يعني هٰذا أنّ كلّ مشروعٍ جديدٍ كان يضيف تكلفةً يدويّةً، بدل أن يولّد هامش ربحٍ. فلا وجود لـ"محرّكٍ ذاتيٍّ" كما هو مفترضٌ في منتجات التّقنيّة.

3. الهوس بقيمة الجولات

جمعت (Builder.ai) أكثر من 450 مليون دولارٍ [1]، لٰكنّ هٰذه الأموال لم تترجم إلى أرباحٍ مستدامةٍ. أدّى تركيزها على رفع التّقييم بدل تحسين الاقتصاديّات الدّاخليّة، إلى توسّعٍ هشٍّ، بلا أساسٍ ماليٍّ صلبٍ.

4. غياب الشّفافيّة في القياس

لم تظهر فجوة الأرباح والخسائر إلّا متأخّراً، ما يعني أنّ الشّركة إمّا لم تكن تقيس مؤشّرات الأداء بدقّةٍ، أو كانت تخفيها. في الحالتين، لا يمكن إدارة شركةٍ تقنيّةٍ بآمالٍ مفتوحةٍ وبياناتٍ مغلقةٍ.

5. خطابٌ تسويقيٌّ يتجاوز الواقع: الواجهة متقدّمةٌ… والمحرّك يدويٌّ

وعدت (Builder.ai) بأن تصنع التّطبيقات بكبسة زرٍّ، بينما كانت تعتمد على عملٍ يدويٍّ شبه كاملٍ [6]. النّتيجة؟ توقّعاتٌ عاليةٌ من العملاء، يقابلها أداءٌ لا يرتقي إلى المستوى، فتتآكل الثّقة من الطّرفين: السّوق والمستثمر.

دروسٌ لشركات الذّكاء الاصطناعيّ النّاشئة

لم تفلس (Builder.ai) لأنّها كانت تفتقر إلى التّقنيّة، بل لأنّها فشلت في ترجمة هٰذه التّقنيّة إلى قيمةٍ نقديّةٍ مستدامةٍ. فروّجت للذّكاء الاصطناعيّ كأنّه الحلّ، وتناست أنّ الحلول تقاس بما تنتج، لا بما تعدّ به.

ومن درس الانهيار، تتبرزخ خمس قواعد أساسيّةٍ يجب على كلّ شركةٍ ناشئةٍ في هٰذا المضمار أن تكتبها على جدار القرار:

1. اربط التّقنيّة بعائدٍ نقديٍّ ملموسٍ

لا تقنع المستثمر في عام 2025 شيفرةٌ ذكيّةٌ ولا واجهةٌ برّاقةٌ، بل يريد رقماً في قائمة الأرباح والخسائر. زد متوسّط الإيراد لكلّ عميلٍ، أو خفّض تكلفة الوحدة، أو قلّص زمن الخدمة. فما لا يترجم نقداً، لا يعدّ نموّاً.

2. اختبر اقتصاديّات الوحدة قبل أن تتوسّع

قد تبدو الأرقامُ جذّابةً في العروضِ التقديميّة، ولكنّ الرّبحَ الحقيقيّ يتآكلُ مع كلّ بطاقةِ GPU، وكلّ رسمٍ على واجهةِ API، وكلّ فاتورةٍ من مزوّدٍ خارجيّ.
وقد أثبتت تقاريرُ Bloomberg أنّ عدداً من الشركاتِ في وادي السيليكون يخسرُ على كلّ مستخدمٍ جديدٍ يُضيفه، لأنّها انطلقت قبل أن تختبرَ اقتصاديات الوحدة، أو تُحسِبَ الهامشَ بدقّةٍ [12] .

3. افتح دفاترك الماليّة مبكّراً

لا تؤجّل الشّفافيّة إلى الجولة التّمويليّة التّالية. بيّن أساسات الهوامش، وافتراضات الرّبح، وتحلّ بالجرأة في ذكر ما لا يعجب المستثمر قبل أن يصبح فضيحةً. فما يخفى اليوم، يسقط غداً.

4. نوّع مصادر الدّخل… فالمنتج وحده لا يكفي

من يبني كلّ مصيره على نموذجٍ لغويٍّ واحدٍ، فهو يراهن على سلعةٍ قابلةٍ للتّقليد. أضف خدماتٍ تكميليّةً، أو تراخيص بياناتٍ، أو حلولاً سحابيّةً تخفّف الاعتماد المفرط على نتيجةٍ واحدةٍ.

5. ابن حاجزاً يصعب نسخه

تشترى التّقنيات، وتقلّد الواجهات، ولٰكنّ البيانات الحصريّة، والعقود البعيدة المدى، وشبكات التّوزيع هي الحصون الّتي تحافظ على القيمة. في عالمٍ يتغيّر بسرعة الخوارزميّات، لا تكفي الفكرة… بل الهامش، والوضوح، والاقتصاد المثبت.

بعد (Builder.ai)... كيف يفكّر المستثمر الّذي لا يقع مرّتين؟

لم تفاجئ أزمة (Builder.ai) من دقّق في الأرقام منذ البداية. ولٰكنّها فجّرت لحظة وعيٍ نادرةً: ما يسمّى "شركة ذكاءٍ اصطناعيٍّ" قد لا يكون أكثر من هيكلٍ تقنيٍّ مموّهٍ، يستهلك التّمويل ويؤجّل الانهيار.

ولذٰلك، لا يكفي اليوم أن تسأل: هل تستخدم الشّركة نماذج لغويّةً؟ بل يجب أن تبدأ بالسّؤال الأهمّ: هل تحوّل التّقنيّة إلى عائدٍ نقديٍّ، أم إلى عرضٍ إستثماريٍّ مبالغٍ فيه؟

لذا، إليك ثلاث قواعد يجب أن تتقدّم كلّ قرارٍ:

1. اربط قرارك ببيانات التّدفّق النّقديّ، لا بالحلم

تجاوز السّوق مرحلة التّقييمات المبنيّة على عدد المستخدمين أو سرعة الانتشار. طالب الشّركة منذ البداية بإثبات أثر التّقنيّة على الإيراد الشّهريّ، وعلى تكلفة الوحدة، ودورة التّحصيل. يشير تقرير PitchBook إلى هٰذا التّحوّل بوضوحٍ: لم تعد الشّركات تقيّم بالضّجيج، بل بالرّبحيّة المتكرّرة [7].

لا تركض خلف من يبهر السّوق، بل استثمر فيمن يقنع فريق المحاسبة.

2. تابع معدل "احتراق النّقد" كما تتابع مؤشّر الرّبح

قد تنمو الشّركة بسرعةٍ، ولٰكنّها تحترق أسرع. راجع نسبة المصروفات إلى العائد، وسرعة استهلاك التّمويل، وأثر كلّ مستخدمٍ جديدٍ على الميزانيّة. لا يجدي أن يضيف المنتج عملاء، إن كان كلّ عميلٍ يكلّف أكثر ممّا يقدّم. فشلت (Builder.ai) لأنّها لم تضبط هٰذه المعادلة مبكّراً، بل جمّلتها رقميّاً حتّى انفجرت علناً.

3. اكتب شروطك كما يكتب المهندس خطّة الطّوارئ

لا تدخل في جولةٍ تمويليّةٍ إلّا وقد وضعت أدوات الحماية الضّروريّة:

  • شرط استرداد رأس المال قبل الآخرين،
  • سقفاً تقييميّاً للجولات التّالية،
  • وحقّاً في التّدخّل عند اختلال المؤشّرات.

أثر انهيار (Builder.ai) على مشهد الذّكاء الاصطناعيّ عالميّاً

لم يسقط "يونيكورن"، بل سقط وهمٌ. فجاء انهيار (Builder.ai) ليعيد ترتيب المشهد سريعاً؛ توقّفت الأسواق عن التّصفيق، وبدأت تسأل: من التّالي؟

وإليك أبرز ثلاث ارتداداتٍ فوريّةٍ لهٰذا السّقوط:

1. تراجع التّقييمات: قدّر محلّلو The Next Web انخفاض تقييمات جولات Series B و C بـ نسبةٍ تصل إلى 30٪ بعد الأزمة [14]. وباتت الشّركات تقيّم اليوم بناءً على الهوامش لا الأمل، وعلى واقع الإيراد لا خيال التّقنيّة.

2. تشديد التّدقيق التّنظيميّ: دفعت فضيحة الإيرادات الوهميّة الهيئات الرّقابيّة إلى دراسة فرض إفصاحاتٍ أوضح حول مبيعات الذّكاء الاصطناعيّ، وخلفيّات نماذج الإيراد.

لم يعد يكفي أن تقول إنّك "تستخدم AI"، بل يجب أن توضّح: كيف؟ ولأيّ غرضٍ؟ وما العائد؟

3. تحوّلٌ في مزاج مجالس الإدارة: تغيّر السّؤال داخل الشّركات النّاشئة من: كيف نكبر بسرعةٍ؟ إلى: كيف نربح خلال 18 شهراً؟

لقد دفعت أزمة (Builder.ai) المستثمرين إلى فرض خططٍ ربحيّةٍ قصيرة الأجل، خوفاً من أن تتحوّل الشّركات إلى "Zombie-corns" تستهلك النّقد دون جدوى [9].

لم تخطئ (Builder.ai) في الحلم، بل أخطأت في الطّريق إليه. ظنّت الشّركة أنّ الشّراكات الكبرى والتّمويل الوفير يمكن أن يعوّضا نموذجاً ربحيّاً هشّاً. ركّزت على أن تبدو ذكيّةً… بدل أن تكون مجديةً. ولٰكنّ الذّكاء الاصطناعيّ – مهما بدا واعداً – يظلّ أداةً.

آخر تحديث:
تاريخ النشر: