الرئيسية الذكاء الاصطناعي "من لا يجيد الذكاء الاصطناعي يستبدل بمن يفعل" ستار لخطة أكبر

"من لا يجيد الذكاء الاصطناعي يستبدل بمن يفعل" ستار لخطة أكبر

تُقال كأنّها نصيحة، وتُروَّج كأنّها خلاص… لكن خلف دعوة "أتقن الذكاء الاصطناعي كي لا تُستَبعد"، تختبئ سرديّة أخطر: "من يمكن استبداله، سيستبدل – سواءٌ أجاد الأدوات أم لا"

بواسطة فريق عربية.Inc
images header

 من السّهل أن نطمئنّ أنفسنا بعباراتٍ مثل: "الذّكاء الاصطناعيّ لن يحلّ مكانك، بل سيحلّ مكانك من يجيد استخدامه". جملةٌ تتردّد كثيراً في المؤتمرات ومنشورات LinkedIn، وتسوّق على أنّها مفتاح النّجاة في سوقٍ يتغيّر بسرعةٍ. لكنّها، في حقيقتها، تمرّر فكرةً أخرى: أنّ السّبيل الوحيد للنّجاة هو أن تسبق غيرك في الاستبدال. [12]

المشكلة أنّ هذه الجملة تنزع الطّابع البنيويّ والاقتصاديّ عن التّغيير الحاصل، وتعيد صياغته كما لو كان خياراً فرديّاً يتعلّق بالمهارة، لا بقرارات شركاتٍ تعيد هيكلة أسواقٍ كاملةٍ. [12]وفي الخلفيّة، تجري عمليّةٌ واسعة النّطاق – يوماً بعد يومٍ – لإحلال نماذج الذّكاء الاصطناعيّ والرّوبوتات محلّ وظائف بشريّةٍ، في قطاعاتٍ لا تقتصر على الأعمال المكتبيّة، بل تشمل التّصنيع، الخدمات، التّعليم، والتّجزئة. [4] [7]

والمعادلة ليست "إمّا أن تتعلّم الذّكاء الاصطناعيّ أو تستبدل"، بل "حتّى إن تعلّمته، قد لا تجد وظيفةً بالمعنى الذي تعرفه اليوم". لأنّ التّغيير مدفوعٌ بعامل الكلفة لا الكفاءة [11]. وما يجري حاليّاً ليس تدريب الموظّفين على استخدام أدواتٍ ذكيّةٍ، بل تدريب أدواتٍ ذكيّةٍ لتحلّ محلّ الموظّفين. [8] [9]

الذّكاء الاصطناعيّ الوكيليّ ليس نسخةً مطوّرةً من ChatGPT… بل شيءٌ مختلفٌ تماماً

غالباً ما نخلط بين أنظمة الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ – مثل ChatGPT – الّتي تعتمد على إدخالٍ بشريٍّ مباشرٍ لتوليد محتوى، وبين ما يعرف اليوم بـ"الذّكاء الاصطناعيّ الوكيليّ" (Agentic AI). الفرق ليس في الشّكل فقط، بل في طبيعة السّلوك الذي تؤدّيه كلّ فئةٍ.

فالذّكاء التّوليديّ تفاعليٌّ بطبعه. ينتظر أمراً، ثمّ ينتج استجابةً – نصّاً، صورةً، كوداً – بناءً على ذلك الأمر. هو أداةٌ تحتاج توجيهاً مباشراً لكلّ خطوةٍ.

أمّا الذّكاء الوكيليّ، فهو نظامٌ يُمنح هدفاً عالي المستوى (مثلاً: تحليل البيانات اليوميّة للشّركة وتوليد تقريرٍ تنفيذيٍّ)، ثمّ يقوم بنفسه بتقسيم المهمّة، واتّخاذ قراراتٍ متتابعةٍ، وتنفيذ الخطوات دون الحاجة لتدخّلٍ بشريٍّ عند كلّ مرحلةٍ. [1]

بمعنىً آخر: الذّكاء التّوليديّ ينتج محتوى. والذّكاء الوكيليّ ينفّذ مهمّاتٍ. الأوّل يساعدك. والثّاني قد يستغني عنك. وهذا تحوّلٌ كبيرٌ. لأنّنا لا نتحدّث هنا عن ذكاءٍ ينتظر التّعليمات، بل عن نظامٍ يملك القدرة على التّحليل، التّقدير، والتّصرّف. ليس لأنّه "واعٍ" أو "مفكّرٌ"، بل لأنّه تمّ تدريبه على أن يتصرّف وكأنّه ذلك – ضمن بيئاتٍ متغيّرةٍ، وأهدافٍ مفتوحةٍ، وعمليّاتٍ معقّدةٍ. [1] [2]

"افتح يا سمسم": الذّكاء الاصطناعيّ لا يتعلّم كما نتصوّر

ثمّة خطأٌ شائعٌ في تصوّر الذّكاء الاصطناعيّ: أنّه "يتعلّم". ما يجري في الواقع أقرب إلى "تغذيةٍ ضخمةٍ بالبيانات، متبوعةٍ بتوقّعاتٍ احتماليّةٍ". لا يوجد تفكيرٌ نقديٌّ، لا توجد مراجعةٌ للذّات، ولا وجود لفهمٍ عميقٍ بالمعنى البشريّ للكلمة. لا بيداغوجيا، لا خطأٌ وصوابٌ، لا هضمٌ ولا شكٌّ.

فالذّكاء الاصطناعيّ الحاليّ – بما فيه النّماذج الوكيليّة – يعمل وفق منطق "افتح يا سمسم"؛ بمجرّد أن تضبط مدخلاته، وترسم له مساراتٌ، يبدأ بالتّنفيذ وفق ما يتوقّع أنّه الأقرب للصّواب، دون وعيٍ بما يعنيه هذا الصّواب.

من هنا تأتي المفارقة: أن تصبح "ذكيّاً في الذّكاء الاصطناعيّ" لا يعني بالضّرورة أنّك تملك مهاراتٍ عاليةً، بل يعني غالباً أنّك تجيد التّعبير عن احتياجك بدقّةٍ، تعرف كيف تكتب prompt "أمراً" واضحاً، وتفهم النّتائج لتصوّبها. وهذه مهاراتٌ إنسانيّةٌ – لغويّةٌ، تحليليّةٌ، تواصليّةٌ – لا علاقة لها بالذّكاء الاصطناعيّ نفسه.

من يتحكّم بالوكالة؟ ومن يستفيد من الاستبدال؟

عندما تقول شركةٌ كبرى إنّها "تدمج الذكاء الاصطناعيّ في العمليّات"، فهي لا تقصد أنّها تمنح الموظّفين أدواتٍ جديدةً. بل في كثيرٍ من الأحيان، تقصد أنّها تعيد توزيع المهام داخل الشركة بحيث يقوم الذكاء الاصطناعيّ بالجزء الأكبر منها، ويتمّ تقليص الفريق البشريّ تدريجيّاً.

في 2023 مثلاً، صرّحت IBM بأنّها ستجمّد التوظيف في 30٪ من وظائف الموارد البشريّة لديها، لأنّ الذكاء الاصطناعيّ قادرٌ على تولّيها خلال خمس سنواتٍ. [9]

أمّا أمازون، فقد أدخلت أكثر من 750,000 روبوتٍ إلى مستودعاتها، واستغنت عن أكثر من 100,000 وظيفةٍ بشريّةٍ منذ 2021. [7]
وفي استطلاعٍ أجري على ألف شركةٍ أميركيّةٍ، أفاد 48٪ من الشركات التي تستخدم ChatGPT بأنّها استبدلت به موظّفين فعليّاً. [8]

هذه قراراتٌ استراتيجيةٌ، لا اختياراتٌ فرديّةٌ. ليست مسألة "من يجيد الاستخدام"، بل مسألة "من يملك نموذج العمل".

هل علينا أن نتعلّم؟ نعم. هل يكفي؟ لا

لا أحد يشكّك في أهميّة تعلّم أدوات الذّكاء الاصطناعيّ. لكنّ الخطير هو اعتبار هذا التّعلّم كافياً لحمايتك من الاستبدال.

إذا لم تُعد صياغة العلاقة بين الإنسان وهذه الأنظمة – قانوناً، اقتصاديّاً، وأخلاقيّاً – فإنّ المسألة لن تكون عن "كفاءةٍ"، بل عن "كلفةٍ". ولن تنجو لأنّك الأفضل، بل لأنّك الأرخص أو الأقلّ احتكاكاً بالنّظام الآليّ. عندها، سيصبح فقدان الوظيفة أمراً عاديّاً. وسنجد أنفسنا أمام واقعٍ يمارس فيه البشر أعمالاً هامشيّة، بينما تدار العمليّات من الأعلى – لا بفريقٍ قياديّ – بل بهيكلٍ رقميٍّ موزّعٍ، غير مرئيٍّ، لا يطلب شيئاً سوى الطّاقة والمعطيات. [11]

من النّصوص إلى الأفعال: الذّكاء الوكيلي والرّوبوتات المجسّمة يدخلان الواقع

منذ عام 2020، لم يعد الذّكاء الاصطناعيّ مجرّد تجربةٍ بحثيّةٍ أو أداةٍ برمجيّةٍ ضمن واجهات الحاسوب. بدأت ملامح مرحلةٍ جديدةٍ تتشكّل، يصبح فيها الذّكاء الاصطناعيّ "جسداً"، ويتحوّل من نظامٍ ينتظر الإدخال إلى كيانٍ ينفّذ مهاماً محسوسةً في العالم المادّيّ.

نتحدّث هنا عن تداخل مسارين تقنيّين متسارعين:

  1. تطوّر "الذّكاء الوكيلي" كنموذجٍ مستقلٍّ في اتّخاذ القرار والتّنفيذ. [3]
  2. ظهور الرّوبوتات المجسّمة كوسائط قادرةٍ على أداء المهام البشريّة على أرض الواقع.

والنّتيجة: وكلاء ذكيّون مزوّدون بأجسادٍ آليّةٍ، يملكون القدرة على التّفاعل مع بيئةٍ معقّدةٍ دون إشرافٍ مباشرٍ – ويستعدّون فعليّاً لحلولٍ تدريجيٍّ محلّ الإنسان في قطاعاتٍ كاملةٍ.

الذّكاء الوكيلي: من أدواتٍ تفاعليّةٍ إلى أنظمة تنفيذٍ ذاتيٍّ

في 2023، شهدنا طفرةً في انتشار أدواتٍ تعرف بـ"وكلاء الذّكاء الاصطناعيّ" مثل AutoGPT وBabyAGI – أدواتٍ تعطيها هدفاً عالي المستوى، فتقوم من تلقاء نفسها بتقسيم المهمّة إلى خطواتٍ، وتنفيذها دون إشرافٍ بشريٍّ في كلّ مرحلةٍ.

هذه الأدوات لا تتوقّف عند توليد النّصّ، بل تجري عمليّاتٍ بحثٍ، تفتح روابط، تحدّث قواعد بياناتٍ، وتعدّل خطّتها بحسب النّتائج. هي ليست ذكيّةً بالمفهوم البشريّ، لكنّها تتصرّف وكأنّها موظّفٌ رقميٌّ مستقلٌّ.

في السّياق الصّناعيّ، دمجت بعض الشّركات هذه القدرات في أدوات التّشغيل الخلفيّة: أنظمة تسيير بريدٍ إلكترونيٍّ، إعداد تقاريرٍ، اتّخاذ قراراتٍ لوجستيّةٍ، أو حتّى إدارة الجداول الزّمنيّة. هذه المهام كانت تُؤدّى في السّابق بواسطة موظّفين إداريّين – الآن تتولّاها أنظمةٌ ذاتيّة التّشغيل.

وهنا يكمن التّغيير الأعمق: الذّكاء لم يعد ينتظر الأوامر؛ أصبح يدير المهام.

من البرامج إلى الأجسام: الرّوبوتات المجسّمة تتجاوز المختبر

إذا كانت السّنوات السّابقة قد شهدت طفرةً في الذّكاء البرمجيّ، فإنّ الفترة من 2020 حتّى 2025 شهدت تزايداً ملحوظاً في تجارب نقل الذّكاء إلى أجسامٍ آليّةٍ تعمل في العالم الحقيقيّ.

أبرز الأمثلة:

  • Sanctuary AI، شركةٌ كنديّةٌ طوّرت روبوتاً بشريّ الشّكل تمكّن في 2023 من أداء أكثر من 110 مهمّةٍ مختلفةٍ داخل متجرٍ حقيقيٍّ في أسبوعٍ واحدٍ، شملت ترتيب البضائع، الجرد، وتقديم الخدمة للعملاء. كان هذا أوّل اختبارٍ ميدانيٍّ يثبت أنّ الرّوبوتات العامّة يمكنها أداء أعمال بيع التّجزئة، خارج بيئات المختبر. [5]

  • Figure AI، شركةٌ أمريكيّةٌ طوّرت روبوتاً بشريّاً يدعى Figure 02، وتمّ نشره تجريبيّاً في مصنعٍ تابعٍ لـBMW في كارولاينا الجنوبيّة، حيث أدّى مهمّة تركيب قطعٍ معدنيّةٍ داخل هيكل سيّارةٍ – وهي عمليّةٌ تطلب دقّةً يدويّةً ومهاراتٍ تنسيقيّةٍ حركيّةٍ. لم تكن التّجربة استعراضيّةً، بل جزءاً من اختبارٍ فعليٍّ لإدماج الرّوبوتات في خطوط التّصنيع. [6]

  • Google DeepMind طوّرت نموذج PaLM-E، الذي يدمج نموذج لغةٍ كبيراً مع نظام تحكّمٍ روبوتيٍّ، بحيث يستطيع الرّوبوت المنزليّ فهم أوامر لغويّةٍ معقّدةٍ، وترجمتها إلى خطواتٍ عمليّةٍ في العالم الحقيقيّ (مثل: "اجلب لي كوباً من المطبخ")، والقيام بها من خلال تحليل البيئة والتّفاعل مع العناصر المحيطة. [14]

  • Atlas من Boston Dynamics، روبوتٌ يتمتّع بقدرات حركةٍ مذهلةٍ، قادرٌ على الجريّ، القفز، والمناورة في بيئاتٍ صعبةٍ، ما يجعله مرشّحاً محتملاً لأداء مهامٍ في مواقع البناء أو الطّوارئ في المستقبل القريب. [15]

الصّناعة تتغيّر: الرّوبوتات لم تعد ذراعاً ميكانيكيّةً فقط

في الماضي، كانت الرّوبوتات الصناعيّة محدودةً: أذرعٌ متكرّرة الحركة، تؤدّي مهمّةً واحدةً بسرعةٍ عاليةٍ. لكن الرّوبوتات الجديدة التي يجرى تطويرها اليوم تصمّم لتكون متعدّدة المهامّ، قابلةً للتكيّف، ويمكن إعادة برمجتها لتأدية وظائف مختلفةٍ.

المؤشّرات الرقميّة تؤكّد ذلك:

  • بحلول 2023، تجاوز عدد الرّوبوتات الصناعيّة العاملة عالميّاً 4.28 مليون وحدةٍ، بزيادة 10% عن العام السابق، وفقاً للاتحاد الدوليّ للرّوبوتات. [4]

  • هذا النموّ لم يعد يقتصر على الدول المتقدّمة. العديد من المصانع في جنوب شرق آسيا، وحتّى في أمريكا الجنوبيّة، بدأت تعتمد على أنظمةٍ روبوتيّةٍ هجينةٍ، تجمع بين الذكاء الاصطناعيّ والتحكّم التقليديّ، لتقليل الاعتماد على العمالة البشريّة في المهامّ المتكرّرة والخطرة.

من الصّناعات إلى الخدمات: الذكاء المجسّد يتّجه إلى التجزئة والرّعاية

ما يثير الانتباه في الموجة الأخيرة من الابتكار هو خروج الرّوبوتات من البيئات الصناعيّة إلى المجالات الخدميّة:

  • في قطاع التجزئة، التجربة الميدانيّة لـSanctuary AI فتحت المجال لتطوير روبوتاتٍ يمكنها أن تحلّ محلّ عمّال المتاجر في مهامٍّ تتراوح بين ترتيب الأرفف، إدارة المخزون، وتقديم المعلومات للعملاء.

  • في المطاعم، بدأت بعض سلاسل الوجبات السّريعة باختبار فروعٍ شبه مؤتمتةٍ بالكامل، كما فعلت McDonald's في تكساس. الطلب يتمّ عبر شاشاتٍ، التوصيل عبر سيورٍ أو أذرعٍ آليّةٍ، والتحضير يتمّ آليّاً خلف الكواليس. [10]

  • في المستشفيات، تستخدم روبوتاتٌ متنقّلةٌ لنقل الأدوية والمستلزمات داخل الأقسام، وتقنيات الذّكاء الاصطناعيّ لتحليل بيانات المرضى أو دعم الأطباء في التّشخيص.

هذه التّحوّلات لا تعني أن الإنسان أصبح غير ضروريٍّ، لكنها تشير إلى إعادة تعريف دوره: من منفّذٍ مباشرٍ، إلى مشرفٍ أو مبرمجٍ أو مدرّبٍ للأنظمة.

ليس تهويلاً: الذّكاء الاصطناعيّ بدأ يغيّر شكل الوظائف فعليّاً

لا نتحدث هنا عن توقّعاتٍ مستقبليّةٍ أو تصوّراتٍ نظريّةٍ. التّحوّلات التي بدأنا توثيقها منذ 2020 لم تعد مجرّد مؤشّراتٍ تقنيّةٍ، بل أصبحت قراراتٍ استراتيجيّةً تتّخذ على أرض الواقع داخل كبرى الشركات والمؤسسات حول العالم.

الأنظمة الذكيّة – سواءٌ كانت برامج وكيليّةً أو روبوتاتٍ مجسّمةً – بدأت تستخدم فعليّاً لتقليل الاعتماد على القوى العاملة البشريّة، وتحديداً في المهامّ التي تتّصف بالتكرار، الكلفة، أو الحاجة للتواجد المستمرّ.

فيما يلي تحليلٌ مفصّلٌ لأبرز القطاعات التي تشهد هذا التّغيير، مع أمثلةٍ موثّقةٍ ومحدّدةٍ من حالات استبدالٍ حقيقيّةٍ.

أوّلاً: الصّناعة والتّصنيع – من خطوط الإنتاج إلى الرّوبوتات متعدّدة المهامّ

يعدّ قطاع التّصنيع من أوائل القطاعات التي تبنّت الأتمتة، لكن الفارق اليوم هو في الانتقال من روبوتاتٍ تقليديّةٍ إلى أنظمةٍ ذكيّةٍ يمكن إعادة برمجتها لأداء مهامٍّ متعدّدةٍ.

  • في مصانع السّيارات مثل BMW، تمّ اختبار الرّوبوت البشريّ Figure 02 في مهمّةٍ دقيقةٍ داخل خطّ الإنتاج، أثبت خلالها قدرةً على تركيب قطعٍ معدنيّةٍ ضمن هياكل المركبات، وهي وظيفةٌ تتطلّب تنسيقاً بصريّاً-حركيّاً عالي الدقّة.

  • الزيادة المستمرّة في عدد الرّوبوتات الصناعيّة عالميّاً – التي وصلت إلى 4.28 مليون وحدةٍ عاملةٍ بحلول 2023 – تعني أن عدداً متزايداً من المهامّ الحركيّة لم يعد يتطلّب تدخّلاً بشريّاً مباشراً. [4]

النتيجة: انخفاضٌ في الحاجة لليد العاملة البشريّة في أعمال التّجميع، التّركيب، والنقل الداخليّ.

وفي بعض الحالات، بدأت المصانع بالعمل جزئيّاً أو كليّاً بأنظمة “Lights-out” – خطوط إنتاجٍ تشغّل بالكامل دون حضورٍ بشريٍّ فعليٍّ.

ثانياً: الخدمات اللّوجستيّة – من الفرز إلى القيادة الذاتيّة

قطاع اللوجستيات شهد تغييراتٍ واسعةٍ مدفوعةً بأمرين:

  1. ارتفاع كلفة العمالة،

  2. وضرورة تسريع وتيرة الشّحن في اقتصاد التجارة الإلكترونيّة.

  • أمازون، التي تشغّل حاليّاً أكثر من 750 ألف روبوتٍ داخل مستودعاتها، بدأت في 2021 تقليص عدد موظّفيها البشريّين تدريجيّاً. وفق تقاريرٍ رسميّةٍ، تمّت إزالة أكثر من 100,000 وظيفةٍ خلال أقلّ من عامين، تزامناً مع إدخال الروبوتات من نوع Digit وSequoia. [7]

  • أنظمة القيادة الذاتيّة بدأت تدخل حيّز التشغيل التجاريّ. في الولايات المتّحدة، تعمل شركاتٌ مثل Waymo وCruz على تشغيل سيّارات أجرةٍ بدون سائقٍ بشريٍّ، بينما يتمّ تطوير شاحناتٍ ذاتيّة القيادة قد تغيّر شكل قطاع نقل البضائع خلال 5 سنواتٍ مقبلةٍ.

الأثر المتوقّع: تهديدٌ مباشرٌ لوظائف سائقي الشاحنات، موظّفي المستودعات، ومعدّي الشّحنات.

ثالثاً: التّجزئة والمطاعم – ما هو قابلٌ للتّكرار... قابلٌ للاستبدال

في قطاع التّجزئة، بات من الممكن أداء عددٍ متزايدٍ من المهامّ بواسطة روبوتاتٍ أو نظمٍ ذكيّةٍ:

  • تجربة شركة Sanctuary AI في متجر "Mark's" بكندا بيّنت أن روبوتاً واحداً استطاع أداء 110 مهمّةٍ مختلفةٍ خلال أسبوعٍ، منها ترتيب الأرفف، جرد المنتجات، وتنظيم التخزين. [5]

  • ماكدونالدز اختبرت عام 2022 مطعماً شبه مؤتمتٍ في تكساس، يعتمد على الطّلب الرّقميّ، التّحضير الآليّ، وتسليم الطّعام دون تفاعلٍ مباشرٍ مع الموظّفين [10] .

ورغم أنّ بعض هذه التّجارب لا تزال تجريبيّةً، إلا أنّها ترسم ملامح واضحةً لتقليص عدد العاملين في وظائفٍ مثل:

  • الكاشير،
  • النادل،
  • عمّال التّنظيف الداخليّ.

المنطق واضحٌ: كلّما أمكن تحويل المهمّة إلى خطواتٍ قابلةٍ للتّكرار، زاد احتمال أتمتتها.

رابعاً: الوظائف المكتبيّة – الذّكاء الوكيليّ يكتب ويردّ ويحلّل

ربما المفاجأة الكبرى ليست في المصانع أو المتاجر، بل في المكاتب. المهامّ الإداريّة والكتابيّة لم تعد آمنةً كما كان يعتقد.

  • IBM صرّحت عام 2023 أنها ستجمّد التوظيف في نحو 7800 وظيفة دعمٍ إداريٍّ، لأنّ باستطاعة الذكاء الاصطناعيّ تولّيها خلال 5 سنواتٍ [9].

  • استطلاعٌ أجري على 1000 مديرٍ تنفيذيٍّ في أمريكا، أظهر أن 49% من الشركات تستخدم ChatGPT، وأن 48% منها استبدلت موظّفين فعليّاً بسببه [8] .

المهامّ المتأثّرة تشمل:

  • كتابة التّقارير،
  • إعداد الرّدود للعملاء،
  • مراجعة الوثائق القانونيّة البسيطة،
  • استخراج البيانات وتحليلها.

وهنا يطرح سؤالٌ جوهريٌّ: إن كان الذّكاء الاصطناعيّ ينجز هذه المهامّ أسرع وبكلفةٍ أقلّ، فما الذي سيبرّر استمرار هذه الوظائف على حالها؟

خامساً: التّعليم والرّعاية الصحيّة – مقاومةٌ جزئيّة... وتحوّلٌ تدريجيٌّ

يبقى قطاعا التّعليم والرّعاية الصّحيّة أقلّ القطاعات تأثّراً حاليّاً، لأسبابٍ تتعلّق بالطابع الإنسانيّ والقيميّ للوظائف.

لكنّ هذا لا يعني غياب التأثير:

  • في التّعليم، طوّرت Khan Academy مساعداً تعليميّاً ذكيّاً (Khanmigo) يقدّم شرحاً فرديّاً لكلّ طالبٍ. كما أشار بيل غيتس في 2023 إلى توقّعه بأن الذّكاء الاصطناعيّ سيدرّس الأطفال خلال 5 سنواتٍ بجودةٍ تعادل المعلمين [13].

  • في الرّعاية الصحيّة، تستخدم أدوات الذّكاء الاصطناعيّ لتحليل صور الأشعّة، اقتراح التّشخيصات، ومتابعة السّجلات الطبيّة. لكنّ القرار النهائيّ ما زال بيد الطبيب.

السيناريو الأقرب حتى 2030 هو التحوّل نحو نموذج "التعزيز الذكي": أي أن يستخدم الذّكاء الاصطناعيّ كمساعدٍ للطبيب أو المعلّم، وليس بديلاً مباشراً.

لكن، كما حدث في القطاعات الأخرى، قد يتحوّل هذا "المساعد" مع الوقت إلى منفّذٍ مستقلٍّ إذا أثبت كفاءةً أعلى.

في الختام: بين المهارة والاستبدال، أين تقف؟

ليس كلّ من يتقن الذّكاء الاصطناعيّ سينجو. وليس كلّ من يجهله محكوماً بالإقصاء.

المسألة ليست سباق مهاراتٍ، بل مسألة سياساتٍ، نماذج أعمالٍ، وخياراتٍ إجتماعيّةٍ تتّخذ الآن – بعيداً عن أنظار من يعتقدون أنّ استخدام أداةٍ ذكيّةٍ كافٍ للنجاة.

في السّنوات القادمة، قد يعمل البعض تحت إشراف نظامٍ ذكيٍّ لا ينام، وقد يقيّم البعض الآخر من قبل وكلاء برمجيّين لا يعرفون الفروق الثّقافيّة أو النّفسيّة.

وحينما يحدث ذلك، تذكّر أنّ عبارة "من لا يجيد الذّكاء الاصطناعيّ سيُستبدل بمن يجيده" كانت تغطيةً جيّدةً لخطّةٍ أكبر... خطّةٍ عنوانها الحقيقيّ:
"من يمكن استبداله، سيستبدل – سواءٌ أجاد الأدوات أم لا".

آخر تحديث:
تاريخ النشر: