الرئيسية التنمية الإحراج القاتل للثقة: كيف تحوّل الخجل إلى قوة قيادية؟

الإحراج القاتل للثقة: كيف تحوّل الخجل إلى قوة قيادية؟

حين يتسلّل الإحراج إلى قلب المشهد القياديّ، لا يكون عثرةً فحسب، بل فرصةً خفيّةً لصقل الهيبة، واستعادة الثّقة، وتحويل الضّعف إلى بصمةٍ من القوّة والنّضج

بواسطة فريق عربية.Inc
images header

هذا المقال متوفّرٌ باللّغة الإنجليزيّة من هنا.

في نهائي بطولة فرنسا المفتوحة عام 1988، سطّرت لاعبة التّنس الألمانيّة شتيفي غراف فصلاً قاسياً في ذاكرة الرّياضة، حين سحقت منافستها البيلاروسيّة ناتاشا زفيريڤا بنتيجة 6–0، 6–0، في مباراةٍ لم تستغرق سوى اثنتين وثلاثين دقيقةً. لقد كانت إهانةً فادحةً بكلّ المقاييس، إذ إنّ نيل "دبل بيغل" في نهائي إحدى البطولات الكبرى أمرٌ يكاد يكون خارج حدود التّصوّر؛ إذلالٌ لم تنسه زفيريڤا قط.

ولا عجب في ذلك. فعندما يستولي عليك الإحراج، تُخيّل إليك أنّ سمعتك قد تهشّمت إلى غير رجعةٍ. لكن، هل يتخطّى النّاس فعلًا مثل هذه اللّحظات؟

من الشركات الناشئة إلى غرف مجالس المدراء التّنفيذيّين، يبقى وقع الإحراج حاضراً أطول بكثيرٍ من لحظة حدوثه؛ إذ إنّه يتسلّل إلى أقوالنا، ويقوّض قراراتنا، ويزرع الارتباك في أبسط اختياراتنا. ومن الخطوط الجويّة الأمريكيّة إلى شركة "بوينغ" (Boeing)، نادراً ما تسلم العلامات التّجاريّة من وخز الإحراج ولسعته. ومع ذلك، ليس حتميّاً أن يُقوّض الإحراج السّمعة، أو يُعطّل المسيرة نحو التّقدّم.

لماذا يُضعف الإحراج ثقتك بنفسك؟

قد يتحوّل الإحراج العابر اليوم إلى تردّدٍ قياديٍّ غداً؛ إذ يمتلك من القوّة ما يكفي لنسف الثّقة بالنّفس، وزعزعة الشّعور بالكرامة، وإشعال الحاجة الملحّة إلى إدارة الانطباع سريعاً وبصورةٍ مدروسةٍ.

وغالباً ما تسعى العلامات التجارية إلى تجنّب تبعاته الباهظة. ففي عام 2023، خسر العقد التّاريخيّ الذي أبرمته شركة "أديداس" (Adidas) مع كانييه ويست أكثر من 1.3 مليار دولارٍ من الإيرادات المتوقّعة. والسبب؟ تأخّر الشّركة في الرّدّ على تصريحاته المثيرة للجدل.

عندما ينشغل الجميع بحماية صورتهم العامّة، تتعطّل عجلة اتّخاذ القرار. ومع تصاعد المخاطر، يتضخّم التّردّد، وتدور المؤسّسات في دوامةٍ من التّجنّب. ولنا في تردد شركة "بلتون" (Peloton) مثالٌ واضحٌ، حين تأخّرت في الاستجابة للمخاوف المتعلّقة بسلامة جهاز المشي الخاصّ بها؛ الأمر الذي أدّى إلى تأخّرٍ في الاستدعاءات، وانحدارٍ كبيرٍ في ثقة المستهلكين. لقد كانت أزمةً كان من الممكن احتواؤها، لكنّها تحوّلت إلى كارثةٍ مكلفةٍ. وليس الخوف من الأحكام وحده هو ما يُغذّي هذا التّردّد، فالتّكنولوجيا الحديثة تسهم بدورٍ لا يقلّ تأثيراً.

فبفضل شاشات التّلفاز ومنصّات التواصل الاجتماعي، تحوّلت كلّ كلمةٍ في عرضٍ تقديميٍّ، أو سطرٍ في مذكّرةٍ، أو حتّى مشاركةٍ في ندوةٍ، إلى لحظةٍ قابلةٍ للانتشار الفيروسيّ. أصبحنا نتصرّف خشية الخسارة أو خشية الإلغاء. الوزيرة البريطانية رايتشل ريفز، على سبيل المثال، ضُبطت تبكي أمام البرلمان بعد أسبوعٍ مليءٍ بالضّغوط. مشهدٌ محرجٌ بلا شكٍّ! وبعد حالة ذعرٍ أدّت إلى بيعٍ بقيمة 3 مليارات جنيه إسترليني، عزت السّبّب إلى "مسألةٍ شخصيّةٍ". من السّهل أن تأخذ ردود الفعل طابعاً.

وبطبيعة الحال، كلّما ارتفع المنصب، أو اتّسع الحضور العلنيّ، تضاعفت احتمالات الوقوع في شرك الإحراج، وتفاقمت آثاره المؤلمة. غير أنّ بعض القادة يحسنون التّعامل مع هذه اللّحظات، ويحوّلونها إلى مواقف مشرّفةٍ. من بين هؤلاء رجل الأعمال مارك كوبان، أحد مستثمري برنامج "شارك تانك" (Shark Tank)، الذي انتابه شعورٌ بالإحراج حين اكتشف أن بعض موظّفي فريقه، "دالاس مافريكس" (Dallas Mavericks)، يعتمدون على المساعدات الحكوميّة لإعالة أنفسهم. فما كان منه إلّا أن استجاب فوراً لتلك الحقيقة الصّادمة، فرفع أجورهم تكريماً لكرامتهم، وتصحيحاً لوضعٍ لم يكن يليق بمؤسّسةٍ رياضيّةٍ تحمل اسمه.

فرغم أنّ الإحراج قد يُلحق الأذى بالعلامات التجارية، إلّا أنّه في بعض الأحيان، قد يحمل في طيّاته فائدةً غير متوقّعةٍ.

لحظات الإحراج ليست دائماً سيئة

رغم أنّ الإحراج متجذّرٌ في الأنا، إلّا أنّه أداةٌ فاعلةٌ لضبط النّفس، وتذكيرٌ صارمٌ بأنّ التّلاعب أو الغشّ لا يمرّ بلا ثمنٍ؛ فمتى أُهملت المبادئ، حضر الذّلّ كعقوبةٍ؛ إنه بمثابة مستشعرٍ أخلاقيٍّ، يوقظ ضميرك، وينبّهك إلى البوصلة القيميّة الّتي ينبغي ألّا تغيب عنك.

وفي كثيرٍ من الحالات، يُعدّ الإحراج اعتذاراً غير منطوقٍ؛ إذ يُفصح عن اهتمامك دون أن تنبس بكلمةٍ. وهذه الإشارة الصّامتة لها وقعٌ بالغٌ في عالم القيادة، حيث كشفت مؤسسة "غالوب" (Gallup) أنّ 39% فقط من الموظّفين يعتقدون أن ثمّة من يهتم لأمرهم في بيئة العمل.

واللّافت أنّ الاعتراف الصّادق بلحظة الإحراج لا يُضعف القائد، بل قد يُعزّز من تأثيره. فبحسب ما أوردته مجلة "هارفارد بزنس ريفيو" (Harvard Business Review)، يُنظر إلى القادة الذين يعترفون بأخطائهم على أنّهم أكثر مصداقيّةً من أولئك الّذين يلقون باللّوم على غيرهم. منطقٌ لا يُخطئه الإدراك؛ فبعيداً عن أن يكون الإحراج مدعاةً للعار، يُنظَر إلى من يتحلّون بالشّجاعة في الاعتراف به كأكثر كفاءةً وثقةً؛ إنّه يُقرّبهم من الآخرين، ويمنحهم مسحةً من الإنسانيّة الصّادقة.

وبما أنّ احمرار الوجنتين علامةٌ بيولوجيّةٌ على الاضطراب أو الانزعاج، فإنّ هذه الإشارة قد تصبح أداةً ثمينةً في مواقف التّفاوض الدّقيقة، سواء في صفقات الفِدى الّتي يديرها مكتب التّحقيقات الفيدراليّ (FBI)، أو حتّى في مفاوضات الأسعار اليوميّة. فقط، تأكّد من أنّ الطّرف الآخر هو من يُعاني لحظة الإحراج... لا أنت!

من الإحراج إلى المصداقية: 6 طرق للحد من الأثر السلبي

المضيّ قدماً ليس خياراً، بل ضرورةٌ لا غنى عنها. ففي كلمته خلال حفل التخرّج في كلية "دارتموث" (Dartmouth)، تحدّث أسطورة التّنس روجر فيدرر عن حقيقةٍ قد تبدو مفارقةً: لقد فاز بنسبة 54% فقط من النّقاط، ومع ذلك حسم 80% من مبارياته لصالحه. لقد أدرك أنّ العبرة ليست في اجترار الماضي، بل في التّوقيت الصّائب حين يُحسن الاختيار. وكقادةٍ، فإنّ تقليص خطر الوقوع في مواقف الإحراج هو فنٌّ لا بد من تعلّمه. وبوصفي عالمة سلوكٍ، أرى أنّ هناك جملةً من الأساليب الفعّالة التي يمكنها أن تحميك أنت، وفريقك، وهويّتك المهنيّة؛ فإليك بعض السّبل الّتي تمكّنك من تجاوز لحظات الإحراج في بيئة العمل بثقةٍ وذكاءٍ:

طَبّع فكرة التعلُّم

حين أرسلت المحرّرة السّياسيّة في هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" (BBC)، لورا كوينسبرغ، ملاحظاتها بالخطأ إلى بوريس جونسون قبيل المقابلة، كان الموقف محرجاً بامتيازٍ. لكنها لم تتهرّب، بل واجهت الخطأ، واعترفت به، وخرجت منه بدروسٍ ثمينةٍ.

أزل العار

حين يتعثّر الزملاء أو العملاء، لا تتركهم في قاع الإحراج، بل مُدّ لهم يد الرفق، وعامِلهم كأبطالٍ نجوا من المحنة، لا كضحايا لها؛ فالنّاس بطبعهم ميّالون للتّعاطف، لا للسّخرية، وغالباً ما تخفّف الدّعابة الذّكيّة والسّخرية من الذّات من حدّة أيّ رد فعلٍ سلبيٍّ.

خفّف من تأثير "تسليط الضوء"

نحن نضخّم في عقولنا حجم نظرة الآخرين إلينا؛ فنعتقد أنّ الجميع يراقب زلّاتنا، بينما الواقع أبسط من ذلك بكثيرٍ. ربمّا تلاحظ عرضاً مرتبكاً من زميلٍ، أو كلمةٍ في غير موضعها، لكن انتباهك يستمرّ لثوانٍ معدودةٍ، بينما يعيشها هو طوال اليوم. لا أحد يراك كما ترى أنت ذاتك.

افصل الخطأ عن الهوية

أعد النّظر في مفهوم الفشل؛ فليس كلّ خطأ وصمة، ولا كلّ تعثّرٍ عيباً شخصيّاً. كما أوضحتُ في كتابي "أنصِت: كيف تتّخذ قرارات أذكى في عالم يعجّ بالضّجيج" (Tune In: How to Make Smarter Decisions in a Noisy World)، فإنّ الهويّة ليست سوى واحدةٍ من عشرة أفخاخٍ تحكيميّةٍ شهيرةٍ. وإن كُنت تتّخذ قراراتك لمجرّد أن تبدو جيّداً أمام الآخرين، فإنّك تغامر بتشويه صورتك بدلاً من تعزيزها.

كن قدوة في الاعتراف بالنقص

من يعترف بخطئه يُقرّ بإنسانيّته، ويقترب من قلوب الآخرين؛ فالنّاس لا يحبّون الكمال المُصطنع، بل ينجذبون للضّعف الصّادق والقصص الّتي تنتصر على الفشل. لهذا، تُلهمنا حكايات العودة القويّة بعد السّقوط، وتنتشر تلك القصص لأنّها تمثّلنا.

كن مُنصتاً

أنصت للظّلال قبل أن تتكاثف. راقب نبرة الزّملاء والعملاء، وانتبه حين يخفت حماسهم أو تتبدّل نبراتهم. في لحظات الإحراج، لا شيء أثمن من لمسة تعاطفٍ صامتةٍ، تُعيد إليهم توازنهم وثقتهم.

الإحراج، وإن بدا لحظةً موجعةً، فهو حالةٌ عابرةٌ لا تدوم. الأهمّ من ذلك، أنّه قد يشعل شرارة التّقدّم الشّخصيّ والمهنيّ. لا تفرّ من لحظتك الحرجة؛ احتضنها. فقد نهضت ناتاشا زفيريڤا من قاع الهزيمة المهينة، لتتصدّر التّصنيف العالميّ في زوجي السيّدات. إنّها شهادةٌ حيّةٌ على أنّ الإحراج، حين نُحسن استثماره، يتحوّل إلى قوّةٍ دافعةٍ نحو النّضج والنّجاح.

إنّ أذكى القادة هم أولئك الّذين يصنعون من كبواتهم سلّماً للارتقاء. وذلك، بحقٍّ، لا يدعو إلى الإحراج… بل إلى الإعجاب!

الرأي الخبير بقلم نوالا وولش، الرّئيسة التّنفيذيّة لشركة "مايند إيكويتي" (MindEquity) والعالمة في السّلوك البشريّ، والعضوة غير التّنفيذيّة، نُشر لأوّل مرّةٍ على موقع Inc.com.

تابعونا على قناتنا على واتس آب لآخر أخبار الستارت أب والأعمال
زمن القراءة: 7 دقائق قراءة
آخر تحديث:
تاريخ النشر: