أسماء نجا تبدأ من الصفر وتصل إلى تمويل بستّ خانات
في اللّحظة الّتي وقفت فيها أمام مرآة متجر، لم تكن تختار بين حقيبةٍ فاخرةٍ ومبلغٍ من المال، بل كانت تختار بين "الآن" و"ما يمكن أن يكون"

في عالم الذّكاء الاصطناعيّ والتّقنيات اللّغويّة الّذي يتطوّر بوتيرةٍ متسارعةٍ، تبرز شركةٌ ناشئةٌ تتّخذ من "جدّة" مقرّاً لها، بفضل مزيجٍ فريدٍ من الحسّ الثّقافيّ والتّقنيّة المبتكرة. شركة "ستك؟" (?STUCK)، وهي منصّةٌ لغويّةٌ مدعومةٌ بالذّكاء الاصطناعيّ، أسّستها رائدة الأعمال المصريّة "أسماء نجا" (Asmaa Naga) عام 2022، نجحت مؤخّراً في تأمين جولة تمويلٍ أوّليّةٍ (Pre-seed) من ستّ خاناتٍ، بقيادة شركة رأس المال الاستثماريّ البريطانيّة "صندوق مينا للتّقنيّة" (MENA Tech Fund)، في أوّل استثمارٍ لها داخل المملكة العربيّة السّعوديّة.
وشارك في الجولة أيضاً "صندوق الابتكار بجامعة الملك عبداللّه للعلوم والتّقنيّة" (KAUST Innovation Fund)، إلى جانب عددٍ من المستثمرين الملائكيّين السّعوديّين، من بينهم "مها طيّبة"، مؤسّسة شركة "رمّان" (RUMMAN) السّعوديّة للإعلام والنّشر، و"بسمة بوشناق"، الشّريكة المؤسّسة والمديرة التّنفيذيّة لشركة "إمكان للتّعليم" (Emkan Education)، الّتي أصبحت الآن جزءاً من PwC. كما انضمّ مستثمرون آخرون إلى الجولة من خلال تجمّعٍ نظّمته مبادرة "عقال" (Oqal).
يأتي هذا التّمويل بعد دعمٍ أوّليٍّ من صندوق "سنابل 500" (Sanabil 500)، وتكريمٍ حظيت به الشّركة ضمن برنامج "تقدّم 2024" (Taqadam Program). وعلى مدار العام الماضي، نجحت الشّركة في استقطاب عددٍ من العملاء المؤسّسيّين، وعقدت شراكاتٍ عدّةً، من ضمنها شراكةٌ مع مشروعٍ سعوديٍّ ضخمٍ من فئة "غيغا".
ولكنّ "نجا" ترى أنّ طريق النّجاح هذا، مبنيٌّ على خبرةٍ مهنيّةٍ راسخةٍ، وعزيمةٍ شخصيّةٍ لا تلين.
وفي حديثٍ مع "عربية .Inc"، روت "نجا" كيف انتقلت من كونها معلّمةً لغةً شغوفةً إلى مؤسّسةٍ لشركةٍ ناشئةٍ في مجال التّكنولوجيا.
تحمل "نجا" درجة الماجستير في "اللّغويّات التّطبيقيّة وتعليم اللّغة" من "جامعة أكسفورد" (University of Oxford) في المملكة المتّحدة، وقد بدأت مسيرتها المهنيّة في الصّفوف الدّراسيّة، قبل أن تفكّر يوماً في إطلاق مشروعها الخاصّ.
تقول: "بدأت التّدريس قبل أن أتخرّج من الجامعة. كان التّدريس يأتي إليّ بفطرةٍ طبيعيّةٍ، ولكنّي دائماً ما تخصّصت في تعليم البالغين".
وعلى مدار 13 عاماً، تنقّلت بين وظائف تدريسيّةٍ متعدّدةٍ، حتّى أصبحت مديرة قسم اللّغة الإنجليزيّة في "المجلس الثّقافيّ البريطانيّ" (British Council) في جدّة.
ومع أنّ تجربتها في "المجلس الثّقافيّ البريطانيّ" كانت مثريةً، إلّا أنّها وجدت نفسها في مفترق طرقٍ حين أغلق المكتب عام 2020.
تقول: "وجدت نفسي أمام خيارين: إمّا البحث عن وظيفةٍ جديدةٍ، أو تجربة شيءٍ مختلفٍ تماماً. ولم أعثر على عملٍ شعرت بأنّه يشبهني، فقلت في نفسي: ربّما حان الوقت كي أبدأ هذا (المشروع) الّذي يربط بين خبراء اللّغة والمستخدمين. أقول (مشروعاً)، لأنّي لم أكن أتخيّل أنّه سيتحوّل يوماً إلى شركةٍ حقيقيّةٍ".
وهكذا، في لحظةٍ من التّردّد، زرعت بذور "?STUCK". فقد رأت "نجا"، الّتي طالما انغمست في عالم اللّغة والتّعليم، فرصةً لسدّ الفجوة في مجال التّقنيّة اللّغويّة باللّغة العربيّة.
وكان القرار المفصليّ حين اختارت "نجا" أن تستثمر في مشروعها عوضاً عن شراء حقيبةٍ فاخرةٍ.
تقول: "كان لديّ مبلغٌ كافٍ في حسابي لشراء تلك الحقيبة الفاخرة الّتي كنت أرغب فيها بشدّةٍ. وقفت أمام المرآة في المتجر والحقيبة على كتفي. وقلت لنفسي: هل أشتري الحقيبة، أم أبدأ مشروعاً؟ أعدت الحقيبة إلى الرّفّ، وبدأت بإجراء اتّصالاٍتٍ لأبحث عن شخصٍ يساعدني في تطوير التّطبيق. كانت تلك أوّل خطوةٍ في تمويلي الذّاتيّ للشّركة".
ولم يكن ذلك مجرّد تنازلٍ عن ترفٍ مادّيٍّ؛ بل كان لحظة الالتزام الفعليّ برحلة ريادة الأعمال. وبعد عامٍ واحدٍ، بات لديها شركةٌ صغيرةٌ، وقاعدة مستخدمين آخذةٌ في التّوسّع، واحتياطيٌّ ماليٌّ مكّنها من شراء الحقيبة ذاتها الّتي تخلّت عنها. تقول ضاحكةً: "هذه المرّة، اشتريتها فعلاً".
وبعد ثلاث سنواتٍ، أصبحت "نجا" تقود فريقاً يتكوّن بنسبة 93٪ من النّساء، وقد نجحت في جمع تمويلٍ من ستّ خاناتٍ في جولةٍ أوّليّةٍ. وتقدّم شركة "STUCK?" اليوم خدماتٍ لغويّةً باللّغتين الإنجليزيّة والعربيّة، من خلال نموذجٍ هجينٍ يجمع بين الذّكاء الاصطناعيّ والبشر، مع التّركيز على السّياق الثّقافيّ والدّقّة.
ويتيح هذا النّموذج للعملاء الاختيار ما بين محتوًى منتجٍ بالكامل عبر الذّكاء الاصطناعيّ، أو من قبل خبراء بشريّين، أو مزيجٍ بين الاثنين، دعماً للشّركات في إنشاء محتوًى يتميّز بدقّةٍ لغويّةٍ ولهجيّةٍ عاليةٍ.
ولكنّ "نجا" أكّدت أنّ رحلة التّمويل لم تكن سلسةً، وأنّ العثور على المستثمرين المناسبين كان عاملاً فارقاً. تقول: "مقابل كلّ (نعم) حصلنا عليها، تلقّينا ما يقارب 20 (لا). لم تكن تجربةً سهلةً أبداً، خصوصاً لأنّنا نعمل في قطاعٍ متخصّصٍ، وليس شائعاً مثل التّكنولوجيا الماليّة وغيرها. أعتقد أنّ البحث عن (المستثمرين المناسبين) بدلاً من (أيّ مستثمرين) ساعدنا قليلاً، إلى جانب تطوير أساليب (النّجاة) الّتي تعينك على الاستمرار. لا بدّ أن تؤمن حقّاً بما تبنيه، إن أردت أن تتحلّى بالصّبر والمثابرة".
وترى "نجا" اليوم أنّ المستثمرين الحاليّين لا يقدّمون المال فحسب، بل يمدّونها كذلك بالشّبكات والعلاقات، والخبرة، والاستراتيجيّة. تقول: "المستثمرون الّذين لدينا الآن هم أشخاصٌ مرّوا بتجربة ريادة الأعمال بأنفسهم، ويدركون كم هي صعبةٌ. ولذلك، فهم يقدّمون لي النّصيحة والتّوجيه حين أحتاج إليهما".
وبعد تأمين التّمويل، باتت "?STUCK" تتعامل اليوم مع مجموعةٍ متنوّعةٍ من العملاء، تشمل شركاتٍ استشاريّةً، ومؤسّساتٍ تعليميّةً، ومشاريع حكوميّةً. وتتمحور عروضها الأساسيّة حول تقديم حلولٍ لغويّةٍ عربيّةٍ مدعومةٍ بالذّكاء الاصطناعيّ ومعزّزةٍ بالبشر، لتلبية احتياجات الشّركات.
وتركّز "نجا" بشكلٍ خاصٍّ على تطوير ذكاءٍ اصطناعيٍّ يتّسم بالملاءمة الثّقافيّة والتّخصيص الإقليميّ. تقول: "دعونا نتّفق أنّنا لسنا مجرّد ذكاءٍ اصطناعيٍّ، لقد أنشأنا نموذجاً هجيناً يجمع بين التّقنيّة واللّمسة الإنسانيّة، لأنّنا نؤمن أنّ التّفاصيل الدّقيقة والملاءمة الثّقافيّة هي جوهر التّواصل".
وتضيف: "أنا أؤمن بأنّ هناك حاجةً كبيرةً إلى نماذج ذكاءٍ اصطناعيٍّ مدرّبةٍ بشكلٍ دقيقٍ على اللّغة العربيّة، ومخصّصةٍ حسب المناطق، لا سيّما مع تحوّل السّعوديّة إلى مركزٍ حيويٍّ وجاذبٍ للاستثمار في مختلف القطاعات".
وترى "نجا" أنّ تركيز المملكة على الحفاظ على ثقافتها ولغتها وتراثها، يوفّر بيئةً مثاليّةً لازدهار شركاتٍ مثل "?STUCK". تقول: "السّعوديّة تحافظ على ثقافتها، وتراثها، ولغتها، وإذا أردت أن تجري عملاً مع السّعوديّة، فلا بدّ أن (تتحدّث ثقافتها). هذا هو سرّ حفاظهم على هويّتهم، ومنعشٌ حقّاً أن ترى ذلك".
وبالنّظر إلى المستقبل، تخطّط "?STUCK" لتوسيع خدماتها لتشمل لغاتٍ أخرى، وتعدّ اللّغة الصّينيّة أوّل لغةٍ غير عربيّةٍ على خارطة الطّريق. ولكنّ "نجا" تقرّ بأنّ لذلك تحدّياته الخاصّة. تقول: "أعتقد أنّ أكبر التّحدّيات لدينا الآن هو أن نحافظ على الملاءمة الثّقافيّة واللّغويّة نفسها مع سوقٍ جديدةٍ تماماً بالنّسبة إلينا، لذلك، نتقدّم بخطًى صغيرةٍ لنتأكّد من أنّنا نقف على أرضٍ صلبةٍ حين نطلق خدمات التّرجمة من الصّينيّة إلى العربيّة".