5 عادات وظيفية تساهم في توسيع فجوة الأجور
عندما يُدرك الأفراد والمؤسسات معاً أنّ العدالة في الأجر ليست منّةً بل حقّاً، تتقلّص الفجوة تدريجياً، ويتحوّل العمل إلى مساحةٍ تُقدّر الكفاءة وتكافئ الجهد بعدلٍ وإنصاف
في عالمٍ يرفع راية المساواة ويحتفي بتمكين المرأة في سوق العمل، ما تزال فجوة الأجور بين الجنسين قائمةً كإحدى أكثر القضايا الاقتصاديّة والاجتماعيّة تعقيداً وإثارةً للجدل. فبينما تتغنّى المؤسّسات بمبادئ العدالة وتكافؤ الفرص، تكشف الإحصاءات أنّ الواقع لا يزال يبتعد عن هذه الشّعارات، إذ تظهر الأرقام أنّ التفاوت الماليّ مستمرٌّ، لا بسبب التمييز المعلن فحسب، بل نتيجة سلسلةٍ من العادات الوظيفيّة الرّاسخة التي تكرّس هذا الاختلال بشكلٍ غير مباشرٍ. ومن خلال تحليل هذه الممارسات اليوميّة، يمكن فهم كيف يسهم السلوك الفرديّ والمؤسّسيّ معاً في إبقاء الفجوة قائمةً، حتّى في بيئاتٍ تدّعي المساواة.
5 عادات وظيفية تساهم في توسيع فجوة الأجور
تكشف بيئات العمل الحديثة عن مجموعةٍ من السّلوكيات اليوميّة الّتي تبدو عاديةً في ظاهرها، لكنها في جوهرها تُسهم بصمتٍ في توسيع فجوة الأجور وتعميق عدم المساواة بين العاملين.
تجاهل التفاوض على الراتب عند التوظيف
يبدأ كثيرٌ من الموظّفين مسيرتهم المهنيّة بقبول أوّل عرضٍ يقدّم لهم، من دون أن يفاوضوا على الرّاتب أو المزايا، ظنّاً منهم أنّ القبول السّريع يظهر الالتزام أو الحماس. غير أنّ هذا السّلوك، على بساطته، يزرع بذرة فجوة الأجور منذ اللّحظة الأولى، لأنّ من يبدأ بأجرٍ منخفضٍ يظلّ متأخّراً عن نظرائه في كافّة الترقيات اللاحقة، إذ تعتمد الزّيادات عادةً على نسبٍ مئويّةٍ من الرّاتب الأساسيّ.
وقد أثبتت الدّراسات أنّ النّساء، على وجه الخصوص، يقدمن على هذه الخطوة بنسبٍ أقلّ بكثيرٍ من الرّجال، الأمر الذي يجعل الفارق في الدّخل يتّسع عاماً بعد عامٍ. وعندما لا يفاوض الموظّف على قيمته، يرسل رسالةً ضمنيّةً إلى الإدارة مفادها أنّه يقبل التّقييم الأدنى. ومن هنا، ينبغي أن يتعامل العاملون مع التفاوض على الرّاتب بوصفه حقّاً مهنيّاً لا ترفاً تفاوضيّاً، وأن يستندوا إلى بياناتٍ دقيقةٍ عن متوسّط الأجور في مجالاتهم، ليطالبوا بمقابلٍ يعبّر عن مهاراتهم وخبراتهم. فحين يغيب التفاوض، لا تتجذّر الفجوة فقط، بل يبنى على أساسها تباينٌ مستقبليٌّ يصعب تعويضه لاحقاً. [1]
القبول بالأدوار الداعمة بدل القيادية
تظهر الأبحاث أنّ عدداً كبيراً من الموظّفين، وخاصّةً النّساء أو الدّاخلين الجدد إلى سوق العمل، يوجّهون أو يختارون بأنفسهم أدواراً إداريّةً أو مساندةً بدل المواقع القياديّة أو ذات الطّابع الاستراتيجيّ. ومع أنّ هذه الأدوار ضروريّةٌ لضمان سير العمل، إلّا أنّها تقدّر ماديّاً ومعنويّاً بدرجةٍ أقلّ، ممّا يعمّق عدم المساواة في الأجور.
ويحدث هذا التّوزيع غير المتوازن عادةً في المؤسّسات التي تغفل مبدأ تدوير الوظائف أو لا تضع خططاً واضحةً لتمكين جميع الكفاءات من الوصول إلى مواقع صنع القرار. ومع مرور الوقت، تتكرّس هذه البنية الوظيفيّة، فينشأ نظامٌ هرميٌّ يعيد إنتاج الفجوة ذاتها بين من يقودون ومن ينفّذون.
ولكسر هذه العادة، لا بدّ أن يسعى الموظّفون إلى اكتساب مهارات القيادة وصنع القرار، وألّا يحصروا أنفسهم في المهامّ الخلفيّة التي تخفي إمكاناتهم. وفي المقابل، يجب أن تراجع المؤسّسات سياساتها لضمان أن تتاح فرص الصّعود للجميع على أساس الكفاءة لا النّوع أو الأقدميّة. فعندما تفتح مسارات التّطوّر أمام الجميع، تضيّق تلقائيّاً مساحة الفجوة الماليّة بين الفئات.
إهمال تقييم الذات وتجاهل طلب الترقية
يؤدّي تجاهل الموظّف لمراجعة أدائه ومطالبته بالتّرقية إلى توسيع فجوة الأجور داخل المؤسّسة من دون أن يدرك ذلك. فكثيرون ينتظرون أن تلاحظ الإدارة جهودهم تلقائيّاً، متناسين أنّ أنظمة العمل الحديثة تكافئ من يبرز إنجازاته بوضوحٍ ويعبّر عن طموحه بثقةٍ. وإذ يغيب هذا النّمط من المبادرة، تنشأ حالةٌ من الرّكود المهنيّ، لأنّ المديرين يميلون عادةً إلى مكافأة من يظهر رغبةً صريحةً في التّقدّم. حتّى وإن كانت نتائج الموظّف الممتنع عن الطّلب متفوّقةً، فإنّ صمته يفسّر على أنّه رضا بالوضع القائم. ولذٰلك، يجب أن يغيّر العاملون نظرتهم إلى التّرقية من كونها مكرمةً تمنح إلى كونها استحقاقاً ينشأ عن أداءٍ مثمرٍ.
وحين يوثّق الموظّف إنجازاته ويعرضها بموضوعيّةٍ في الوقت المناسب، يقلّص بذلك جزءاً كبيراً من التّفاوت الماليّ بينه وبين زملائه ذوي الكفاءة المشابهة. فالشّفافيّة في عرض القيمة المهنيّة لا تعزّز فقط فرص التّقدير، بل ترسّخ ثقافةً عادلةً تقيّم الجهد على أساسٍ موضوعيٍّ.
الإفراط في القبول بمهام غير مدفوعة القيمة
يسهم قبول الموظّف أداء مهامٍّ إضافيّةٍ خارج نطاق توصيفه الوظيفيّ، من دون مقابلٍ مادّيٍّ، في تعميق فجوة الأجور داخل المؤسّسة، خصوصاً حين يتكرّر ذٰلك من فئةٍ دون أخرى. وتتجلّى هذه الظّاهرة حين يتولّى بعض الموظّفين تنظيم الفعّاليّات، أو تدريب الزّملاء الجدد، أو القيام بأعمالٍ لوجستيّةٍ دون مكافأةٍ توازي الجهد المبذول.
ورغم أنّ هذه المبادرات قد تظهر التزاماً وانتماءً، إلّا أنّها تستهلك وقتاً يفترض أن يخصّص للمهامّ الأساسيّة الّتي يقاس الأداء من خلالها، فيضعف التّقييم السّنويّ وتقلّ فرص الزّيادة أو التّرقية. وتشير بعض الدّراسات إلى أنّ هذه الأعباء غير المدفوعة تعادل في مجموعها أسابيع من العمل المجّانيّ سنويّاً، وهو ما يرسّخ تفاوتاً تراكميّاً في الدّخل بين أفراد الفريق الواحد.
ولتفادي ذٰلك، ينبغي أن يحدّد الموظّف أولويّاته بوضوحٍ، وأن يطالب بتعويضٍ عادلٍ عن أيّ جهدٍ يقدّم خارج المهامّ الرّسميّة. كما يستحسن أن تنظّم المؤسّسات توزيع المهامّ التّطوّعيّة بحيث لا تقع دوماً على الفئة ذاتها، حفاظاً على التّوازن وعدالة التّقييم. [2]
الإحجام عن تغيير الوظيفة أو السعي إلى فرص جديدة
يفضّل بعض الموظّفين البقاء في مكان عملٍ واحدٍ سنواتٍ طويلةً رغم ثبات الأجور أو ضعف التّقدير، ظنّاً منهم أنّ الولاء المؤسّسيّ يكفل الأمان المهنيّ. غير أنّ هذا البقاء الطّويل، حين لا يرافقه نموٌّ ماليٌّ أو تطويرٌ حقيقيٌّ، يسهم في ترسيخ فجوة الأجور بين من يثبتون ومن يتنقّلون بذكاءٍ.
وقد كشفت الإحصاءات أنّ من يغيّرون وظائفهم كلّ ثلاثٍ إلى خمس سنواتٍ يحقّقون زياداتٍ ماليّةً أعلى تصل في المتوسّط إلى 20% مقارنةً بمن يواصلون العمل في المؤسّسة نفسها. ومع مرور الوقت، يتحوّل هذا الفارق إلى فجوةٍ تراكميّةٍ يصعب تعويضها لاحقاً. ولذٰلك، يجب أن يقيّم الموظّف مساره المهنيّ دوريّاً، وأن يدرك أنّ الانتقال لا يعني خيانةً للمكان، بل يجسّد وعياً بقيمة الذّات في سوقٍ تنافسيّةٍ. وفي الوقت نفسه، تقع على المؤسّسات مسؤوليّة تحديث سياسات التّرقيات والمكافآت لتجنّب تسرّب الكفاءات، الّذي يكلّفها على المدى البعيد أكثر ممّا توفّره من أجورٍ جامدةٍ.
الخاتمة
تظهر هذه العادات الخمس أنّ فجوة الأجور لا تبنى على التّمييز المباشر وحسب، بل تتغذّى من سلوكيّاتٍ يوميّةٍ راسخةٍ تعيد إنتاج عدم المساواة من حيث لا نشعر. ولا يمكن تضييق هذه الفجوة إلّا حين يدرك الأفراد أنّ العدالة الماليّة ليست امتيازاً بل حقّاً مهنيّاً، وحين تترجم المؤسّسات هذا الوعي إلى سياساتٍ شفّافةٍ تقيم العدل بين الجهد والمكافأة. وعندها فقط، يتحقّق التّوازن بين الكفاءة والتّقدير، وتتحوّل بيئة العمل إلى مساحةٍ تحتضن المساواة لا شعاراً، بل ممارسةً واقعيّةً تقاس بالإنصاف والنّتائج.
-
الأسئلة الشائعة
- ما العوامل غير الظاهرة التي تزيد من فجوة الأجور بين الجنسين؟ تسهم العوامل الثّقافية والاجتماعيّة في استمرار فجوة الأجور، مثل توقع المجتمع من المرأة أداء أدوارٍ منزليّةٍ إضافيّةٍ، وضعف الوعي المهني بالحقوق الماليّة، إضافةً إلى النّظرة النّمطيّة الّتي تربط القيادة بالرّجال، ممّا يقلّل من فرص النّساء في المناصب العليا ذات الأجور المرتفعة.
- كيف يمكن للموظف تقليل الفجوة بينه وبين زملائه في الراتب؟ يمكن تقليل الفجوة عبر التّفاوض المستمر على الأجر عند كل فرصة، والمطالبة بالتّرقيات في الوقت المناسب، وتوثيق الإنجازات المهنيّة، وتجنّب أداء المهام الإضافيّة دون مقابلٍ، مع تقييمٍ دوريٍّ لمسار التّطوّر المهنيّ ومقارنته بمتوسّط السّوق.