كيف تحوّلت اليابان من استعمارٍ دمويّ إلى علامة عالميّة؟
نجحت اليابان في التحوّل من إرثٍ استعماريٍّ قاسٍ إلى أيقونة للابتكار والرقيّ العالميّ بفضل استراتيجيتها الثقافية وهوسها بالجودة والدقّة

وصمت اليابان بتاريخٍ استعماريٍّ وحشيٍّ، امتدّ إلى جيرانها كوريا والصّين لنحو قرنٍ من الزّمان منذ عهد فيجي في 1868 وحتى الحرب العالمية الثانية ونهايتها الكارثيّة بإلقاء قنبلتي هيروشيما وناجازاكي، ومن ثمّ منع اليابان تماماً من إنشاء أيّ قوّةٍ عسكريّةٍ.
واليوم أصبحت اليابان ثالث أكبر اقتصادٍ في العالم، وهو الأمر الذي يشكّل معجزةً حقيقيّةً، خصوصاً مع افتقارها للكثير من الموارد الطبيعيّة، وكثرة الحروب التي خاضتها، والعقوبات الصّارمة التي فرضتها دول الحلفاء عليها.
فكيف نجحت في تغيير صورتها الاستعماريّة والتّخلّص من النّتائج المدمّرة للحرب، لترتبط في أذهان العالم كلّه بكلّ ما هو "كيوت" ومثاليٍّ وأصيلٍ؟
علاماتها التّجاريّة المتنوّعة، سواءٌ في الفنّ، أو الطّعام، أو السّياحة، أو الإلكترونيّات، تحمل كلّ ما هو مبتكرٌ، وموثوقٌ، وأصيلٌ، مع ترحيبٍ دوليٍّ كبيرٍ بكلّ ما تقدّمه، وسعي جميع العلامات التّجاريّة الدّوليّة للعمل في أرضها وفقاً لقواعدها وما يتلاءم مع ثقافتها. [1]
مبادرة اليابان الرائعة "Cool Japan" الحكوميّة
لم يكن نجاح اليابان في إعادة بناء سمعتها العالميّة محض صدفةٍ، فقد بدأت منذ الحرب العالميّة الثّانية في تنمية واستخدام القوّة النّاعمة بكلّ جوانبها الفنّيّة، والثّقافيّة، والتّعليميّة، والتّقنيّة، مع الاحتفاظ الصّارم بهويّتها التّاريخيّة، لتطبع كلّ شيءٍ بطابعها الخاصّ دون التّأثّر بالنّمط الغربيّ إلّا بما يخدم مصلحتها فقط.
واتّخذ الأمر طابعاً أكثر وضوحاً في العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، فبعد نجاح مبادرة "بريطانيا الرائعة"، أطلقت الحكومة اليابانيّة رسميّاً عام 2010 مبادرة "اليابان الرائعة" بميزانيّة إنفاقٍ أكثر من 500 مليون دولارٍ، وبما يعادل 50 مليار ينٍ، بالإضافة لاجتذاب القطاع الخاصّ للاستثمار في المبادرة، والتي تهدف للتّرويج العميق لكلّ شيءٍ مرتبطٍ بالثّقافة اليابانيّة، من رسومٍ متحرّكةٍ إلى الطّعام، والأزياء، والموسيقى، وصولاً إلى العلامات التّجاريّة.
ومن أهمّ ملامح تلك المبادرة: [2]
- الاهتمام الفائق بالتّفاصيل، فتعتبر الدّقّة من أهمّ السّمات المميّزة للعلامات التّجاريّة اليابانيّة في جميع القطاعات.
- الانسجام مع الطّبيعة، فتحرص على استخدام أشكالٍ عضويّةٍ وموادّ طبيعيّةٍ، ممّا يعطي انطباعاً بالمسؤوليّة البيئيّة.
- احترام التّقاليد، فيضع بناة العلامات التّجاريّة التّراث الثّقافيّ دائماً أمام أعينهم، ويدمجون بين القديم والجديد.
- التّحسّن المستمرّ، وهي ثقافة "كايزن" اليابانيّة، والتي تعني سعي الجميع إلى الكمال في كلّ ما يفعلونه، لتكون المنتجات والخدمات خاليةً تماماً من العيوب.
- التّوجّه طويل الأمد، فكلٌّ من الشّركات اليابانيّة والمؤسّسات تؤمن ببناء علاقة مدى الحياة مع العملاء، بدلاً من السّعي لأرباحٍ فوريّةٍ، وهذا يساعدهم على الصّبر، كما يتيح وضع استراتيجيّاتٍ خاصّةٍ بهم فقط.
شاهد أيضاً: إعادة بناء وترويج الهوية الوطنية السورية:
كيف نفّذت كلّ القطاعات استراتيجيّة "اليابان الرّائعة"؟
لن تجد قطاعاً واحداً في اليابان يتخلّف عن ركب الالتزام باستراتيجيّة Cool Japan، وقد ظهر هذا بشدّةٍ في كلٍّ من:
الدعم الكبير للرّسوم المتحرّكة اليابانيّة والمانغا
قبل حتّى إطلاق مبادرة Cool Japan، كانت الرّسوم المتحرّكة سفيراً رائعاً بين اليابان ودول العالم، من خلال مسلسل أوشين Oshin في الثّمانينات، والذي انتشر كالنّار في الهشيم في 46 دولةً مختلفةً، ويعرفه تماماً جيل الثّمانينات والتّسعينات، خصوصاً مع التّوزيع الخارجيّ المجّانيّ له.
كما أنّ أنيمي "بوكيمون" Pokémon يعتبر من العلامات الفارقة في تاريخ الرّسوم المتحرّكة اليابانيّة، والذي فتح الباب على مصراعيه للمزيد من تقبّل الثّقافة اليابانيّة، بل والافتتان بها.
فوجّهت الحكومة ميزانيّةً ضخمةً لإنتاج عدّة برامج تلفزيونيّةٍ، منها سلسلة Cool Japan Hakkutsu: Kakkoii Nippon!، والذي انتهى عرضه في 2009، ممّا سلّط الضّوء أكثر على الثّقافة اليابانيّة، وزاد من مساحة الاهتمام بها في كلّ دول العالم، ليتوّج الأمر بالمسلسل الدّراميّ التّاريخيّ "شوغون" Shōgun، الذي فاز بـ18 جائزة إيمي، وغيرها الكثير، وما صاحبه من انتشارٍ كبيرٍ لرسوم المانغا ومسلسلاتها، التي سحرت جميع الأعمار وربطتهم بها.
إنشاء مؤسّسة اليابان
بدأت "مؤسّسة اليابان" نشاطها عام 1972، وكانت مكرّسةً فقط لتعزيز التّبادل الثّقافيّ الدّوليّ والتّفاهم المتبادل، لتطلق دورات تعلّم اللّغة اليابانيّة مجّاناً أو بمقابلٍ رمزيٍّ، وتنشئ فروعاً في 24 دولةً متنوّعةً، لتنظّم أحداثاً ثقافيّةً ودوراتٍ لغويّةً باستمرارٍ، مع أنشطةٍ متنوّعةٍ ومنتدياتٍ فكريّةٍ، تهدف لتعزيز الثّقافة اليابانيّة في كلّ أنحاء العالم، لتنجح في هذا بشدّةٍ.
الاهتمام الفائق بالتّعليم الدّاخليّ
لم تتوقّف جهود الحكومة فقط في التّرويج الخارجيّ لثقافتها، بل رفعت مستوى التّعليم، الذي كان جيّداً في الأساس، ليصبح إلزاميّاً لمدّة 9 سنواتٍ، تغطّي المستويات الابتدائيّة والإعداديّة، مع التّركيز على المشاركة المجتمعيّة، لتحتلّ اليابان دائماً مرتبةً مرتفعةً في التّقييمات الدّوليّة، خصوصاً مع جهودها للحدّ من تأثير الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة على الأداء الأكاديميّ، والالتزام بتكافؤ الفرص، لتمتلك الآن مجموعةً من أفضل الجامعات على مستوى العالم، مثل جامعة طوكيو وجامعة كيوتو، وغيرها، والتي تجذب الباحثين الدّوليّين المتميّزين من جميع أنحاء العالم.
الاستثمار المكثّف في التّقنيّات الحديثة
لم تدّخر الحكومة اليابانيّة جهداً في الاستثمار الكثيف في البحث والتّطوير، ممّا دفع بالصّناعات التّكنولوجيّة والسّيّارات إلى مستوياتٍ خرافيّةٍ في سنواتٍ قليلةٍ، مع الالتزام الصّارم بالجودة والإبداع، ممّا جعل علاماتٍ تجاريّةً مثل تويوتا وهوندا ونيسان وباناسونيك وسوني وألعاب نينتندو تنتشر على مستوى العالم وتزدهر باستمرارٍ، مع عشرات العلامات التّجاريّة المختلفة، والّتي التزمت جميعها بمجموعة القواعد الّتي شكّلت روح مبادرة "اليابان الرّائعة".
نشر ثقافة الطّعام اليابانيّ
تتأثّر مختلف العلامات التّجاريّة، سواءٌ اليابانيّة البحتة أو حتّى تلك الّتي تعمل بها، بثقافة الطّعام اليابانيّة، فنجد انتشاراً كبيراً لوجبة السّوشي وثقافة حفلات الشّاي، وقد نجحت علاماتٌ مثل سنتوري Suntory كيكومان Kikkoman في مزج التّقاليد مع الحداثة والالتزام بالتّكيّف الثّقافيّ والتّوطين والاحترام الفائق للتّقاليد، بحيث تحدث مواءمةً فائقةً بين هويّات العلامات التّجاريّة اليابانيّة والثّقافات المتنوّعة، ليتعاونا معاً لإنتاج شيءٍ فريدٍ يناسب مختلف أنواع الجمهور.
إطلاق العنان للأزياء
تمكّنت بيوت أزياءٍ مثل يونيكلو Uniqlo وكوم دي غارسون Comme des Garçons من تحقيق تأثيرٍ دوليٍّ مهمٍّ بالتّركيز على أسلوبها الفريد المستوحى من داخل الثّقافة اليابانيّة، فيركّز Uniqlo على الجودة شديدة الارتفاع مع الجماليّات البسيطة، فيما يتمتّع Comme des Garçons العنان للخيال لأعلى المستويات.
الالتزام بثقافة الضّيافة اليابانيّة أوموتيناتشي Omotenashi
تجسّد ثقافة الضّيافة في اليابان والمعروفة باسم أوموتيناتشي التزاماً عميقاً بالخدمة الاستثنائيّة والرّعاية الحقيقيّة للضّيوف، وهي، مثل جوانب الحياة الأخرى في اليابان، تؤكّد على الاهتمام بكلّ التّفاصيل بإخلاصٍ فائقٍ ودون توقّع المكافأة، مع السعي للكمال التّامّ.
فضلاً عن الاحترام العميق المصحوب بلغةٍ وإيماءاتٍ مهذّبةٍ تعكس القيمة المرتفعة الّتي يمنحونها للضّيوف، وهذه الثّقافة تشمل مجموعةً متنوّعةً من القطاعات، مثل الفنادق والمطاعم ومتاجر البيع بالتّجزئة والمواصلات العامّة وغيرها، ممّا يعكس التزاماً حقيقيّاً بتوجيه أفضل عنايةٍ للضّيوف، لتحقّق معدلات السّياحة طفرةً في اليابان بفضل هذه السّياسة، ليصل عدد السّيّاح المتوقّع في 2025 إلى 40 مليون زائرٍ.
استخدام الذّكاء الاصطناعيّ ووسائل التّواصل الاجتماعيّ بأسلوبٍ فريدٍ
كانت اليابان دائماً متقدّمةً فيما يتعلّق بالاستفادة الفائقة من الذّكاء الاصطناعيّ وقوّة وسائل التّواصل الاجتماعيّ، فقد كانت الشّركات اليابانيّة من أوّل من استخدم تقنيّة الواقع الافتراضيّ لإنشاء تجارب علاماتٍ تجاريّةٍ غامرةٍ تزيد التّفاعل، واستمرّت دائماً في تبنّي نهج البساطة واعتبارها القوّة المؤثّرة دون تعقيداتٍ، مع الحفاظ على لمسةٍ إنسانيّةٍ أساسيّةٍ تعكس القناعة الواضحة بالهويّة واحترامها.
إنّ البساطة والاهتمام الفائق بالتّفاصيل جميعها، والمزج شديد الأهمّيّة بين التّقاليد والابتكار، والحرص الصّارم على التّحسّن المستمرّ، مع الابتكار، هو ما يميّز مبادرة "اليابان الرّائعة"، والّتي تتضافر الجهود جميعاً لتحقّق الالتزام التّامّ بهذه الاستراتيجيّة، ليحصدوا نتيجتها المـميّزة في سنواتٍ قليلةٍ، وتتحوّل الدولة بأكملها إلى براند عالميّ يرتبط بكل ما هو مثالي ومميّز.
إنّ طريق بناء اليابان لم يكن سهلاً على الإطلاق، ومرّت بتحديّات متنوعة، لكنّها استمرّت في جهودٍ حثيثةٍ فشلت الكثير من الدّول في الالتزام بها، لتنتقل من فشلٍ إلى آخر.
ربّما تختلف اليابان حقّاً في أنّ ما مرّت به لم يدمّر العقول كما حدث في الدّول الّتي تعرّضت لتجارب استعماريّةٍ طويلةٍ، ولكن لا يوجد شيءٌ غير قابلٍ للإصلاح، المهمّ فقط أن تتضافر الجهود جميعها، وأن تكون النّيّة حقيقيّةً لمصلحة الوطن، وليس لتحقيق منافع شخصيّةٍ مؤقّتةٍ وتمسّكٍ واهٍ بكرسيّ السّلطة.