التسويق بالمحتوى.. المستقبل الذي يرهق الشركات ويصنع النجوم
“قل للمليحة في الخمار الأسود *** ماذا فعلت بناسكٍ متعبد”؟
يحمل ذاك البيت البليغ المعبر والذي زاد رونقه الفنان السوري الراحل صباح فخري عندما قام بغنائه قصة جميلة في التسويق، دارت رحاها في القرن الثامن الميلادي.
ملخص القصّة التي شهدت أول إعلانٍ شعري في التاريخ العربي، أن رجلاً عراقياً قدم إلى المدينة بتجارة خُمُر ملونة، فباعها كلها إلا السوداء منها لم يشترها منه أحد.
فقصد التاجر العراقي الشاعر العربي ربيعة بن عامر الملقب بالدارمي، وقصّ عليه معضلته، وكان الدارمي قد لزم المسجد للعبادة وترك الشعر.
وبطلب من التاجر واتفاقٍ معه ألقى الدارمي قصيدة قال فيها :
“قل للمليحة في الخمار الأسود *** ماذا فعلت بزاهد متعبد
قد كان شمّر للصلاة إزاره*** حتى قعدتِ له بباب المسجد
ردّي عليه صلاته وصيامه*** لا تقتليه بحق دين محمد”.
وبعد أن شاعت تلك الأبيات في أهل المدينة، أقبلت النساء على الخمر السوداء حتى نفدت من التاجر، وللقصة تفاصيل أكثر يمكن للمهتم البحث عنها وقراءة تفاصيلها.
استحضرنا قصّة “قل للمليحة” في السياق التاريخي للتسويق بالمحتوى، فالشعر الذي ألقاه الدارمي كان هو المحتوى الرائج آنذاك، ومؤلفوه ومهلهلوه هم “صناع المحتوى” في مفهومنا اليوم.
تطور التسويق بالمحتوى
لا مجال هنا لتتبع تطور التسويق بالمحتوى منذ ذاك الزمن وحتى اليوم، فقد مر بالكثير من المراحل والأساليب بعضها نعلمها وأخرى لا نعلمها.
في الزمن المعاصر وحده ستجد كل إنسانٍ منّا قد عاصر عدة مراحل من تسويق المحتوى، من التسويق بالنصوص والصور في الصحف والمجلات والملصقات على الأبواب واللافتات الطرقية، إلى التسويق بمحتوى أشرطة الكاسيت إلى التسويق عبر الهاتف.
ثم الراديو والتلفزيون، وصولاً إلى التسويق عبر المنتديات والمدونات والمواقع الإلكترونية والبريد الإلكتروني ورسائل الجوال النصية، ثم عبر محركات البحث والشبكات الاجتماعية، وأخيراً وليس آخراً البودكاست.
وما يجمع أنماط التسويق تلك أنها تحمل محتوى، أي فكرة تخاطب العميل المحتمل كي يُقدِم على سلوك أو فعل يراه ضرورياً، ويراه المعلن بيعاً وعائداً.
وربما يمكننا تعريف المحتوى التسويقي بأنه “الصلة بين المعلن والعميل”.
صنّاع المحتوى.. “المنتَج” الذي يروّج لمنتجات الشركات
منذ بداية القرن الحادي والعشرين اتخذ التسويق بالمحتوى معناً آخر، فلم يعد حكراً على الشركات، مع انطلاق فيسبوك عام 2003، ثم يوتيوب 2005 وتويتر 2006 (إكس حالياً)، بدأ تواجد ما نطلق عليه اليوم صانع محتوى سواء كان “يوتيوبر”، أو “مغرد” أو “فيسبوكي”، على اختلاف ما يصنعونه من صور أو فيديوهات أو نصوص كلها في دائرة المحتوى.
وأصبح لأول مرة بإمكان الأفراد العاديين منافسة شركات التسويق الكبرى عبر حساباتهم وقنواتهم التي يقدمون من خلالها محتوى يستقطب المعلنين الذين يدفعون لأصحاب تلك الحسابات أو القنوات مقابل النشر عن منتجاتهم.
وفي أيامنا هذه، بتنا نرى الكثير من وكالات التسويق عبر المؤثرين، مثل موقع “سوشيال آي socialeye.ae ” الذي يربط الشركات الراغبة بالإعلان مع صناع المحتوى والمؤثرين المناسبين لمنتجات تلك الشركات.
أي إن صناع المحتوى فرضوا أنفسهم، وباتوا “منتجاً” بحد ذاتهم بالنسبة للمعلنين، ودخلوا معهم في علاقة منفعة متبادلة معقدة بقدر بساطتها.
التسويق بالمحتوى.. المستقبل الذي يرهق الشركات ويصنع النجوم
حتى عام 2018، كانت صناعة المحتوى (على الأقل في العالم العربي) عملاً صعباً، بدأته فئة قليلة من الناس بمختلف مشارب الحياة، فبعضهم تخصص بالصحة وآخرون بالثقافة والأدب ورواية القصص، والبعض الآخر بمشاركة نمط الحياة.
وما إن انتشرت جائحة كورونا حتى حملت في طيّاتها انتشاراً لتطبيق يعاني اليوم من احتمال حظره في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو تطبيق “تيك توك” الذي غيّر القواعد تماماً في عالم صناعة المحتوى الإلكتروني، ولا يتسع المقال لتفصيل ما فعله تيك توك في صناعة المحتوى برمتها، فلذلك مقالٌ آخر.
مع انتشار تيك توك، بدأت تخرج شخصيات بمحتوى هادف ومبتكر، وأخرى بمحتوى مثير للجدل، وغيرها تروج لأفكار غير أخلاقية متعارضة مع القيم، وكل تلك الحسابات هدفها واحد تحقيق الشهرة والمال.
ذاك التهافت الكبير وأحلام تحقيق الشهرة والمال، أدت لسيول عارمة من المحتوى، باتت تنظّمها خوارزميات الشبكات الاجتماعية التي تختار منشوراً أو فيديو معيناً وتسمح له بظهور كبير بينما تحجب آخر وتقلل ظهوره، وعلى الرغم من أن بعض توزيع المحتوى يخدم أهداف تلك الشركات إلا أن بعضه الآخر يتم توزيعه لغرض ملء وقت المشاهد بما يحب ليقضي أكبر وقت ممكن على المنصة وبالتالي يشاهد أكبر قدر من الإعلانات، أي يخدم نفس الأهداف لكن بطريقة غير مباشرة.
تلك السيول من المحتوى جرفت النمطية التي بنتها شركات التسويق التقليدية من صحف ورقية وحتى راديو وتلفزيون إلى حدٍ ما، وجعلت مهمّتها أصعب، ولعل الأعوام الماضية تشهد على ذلك عندما أُغلقت مئات الصحف الورقية أو انتقلت للنسخ الإلكترونية واكتفت بها.
لكن المشكلة لم تنتهِ، فما زال بوسع صانع المحتوى أن ينافس تلك المؤسسة العتيدة التي قد يصل عدد موظفيها للآلاف في بعض الأحيان، وأصولها لمئات الملايين، بينما صانع المحتوى لا يلزمه سوى هاتفه، ففي بعض الأحيان لا تلزمه لغة سليمة مثل الشباب الآسيويين الذين أصبحوا تريند في لحظة ما عبر عبارات جميلة ولطيفة لسامعها باللغة العربية المكسرة، بسيطة في معناها وتم تقديمها بأسلوب مبسط ومحبب للمشاهدين “جديدو رخيصو يجنن يهبل خيااال” لتحصد انتشاراً وتفاعلاً مرعباً.
وكذلك الحال مع صانع المحتوى “خابي لام” الذي قدّم محتوى صامتاً جاب العالم شرقاً وغرباً، والشاب المصري الشاذلي الذي خلق نوعاً من التسويق بالمحتوى أجبر الشركات على الالتفاف حوله وطلبه بالاسم، بعيداً عن تقييمنا لجودة المحتوى، لكن النماذج الثلاثة كانت أنواعاً للمحتوى صنع الشهرة والمال لأصحابها والتف حولها الجمهور والمعلنون.
ثنائية المحتوى المبتكر والخوارزمية = الشهرة والمال
لا يكفي أن يكون المحتوى جيداً أو هادفاً أو قيماً حتى يتوافق مع الخوارزمية، فكل واحدة من الشبكات الاجتماعية الكبرى كفيسبوك ويوتيوب وتيك توك وسناب شات وغيرها من المنصات، لها خوارزميتها الخاصة التي تخدم أهدافها بشكلٍ رئيسي، وتضع القيود على المحتوى ليناسب الفئات العمرية المسموح لها بدخول المنصة، وكذلك مراعاة الأنظمة والقوانين في الدول التي تنتشر فيها تلك المنصات.
وأي محتوى حتى يكتب له النجاح، لا بد له من التوافق مع شروط تلك الخوارزميات، هكذا كان الحال سابقاً، والآن مع كثرة المحتوى المتوافق بات الابتكار مطلوباً في المحتوى حتى ينتشر على نطاقٍ واسع.
لكن الانتشار الواسع للمحتوى ليس النهاية، فلا بد أن يكون ذاك المحتوى أو صانعه قادراً على التأثير بالمشاهد، فأي شخص يتصفح الشبكات الاجتماعية لمدة ساعة مثلاً يشاهد ما لا يقل عن 100 منشور، يتخللها 20 إعلاناً على الأقل، أي هناك نوع من الإغراق بالإعلانات أولاً.
ثانياً، فإن المنشورات التي تندرج ضمن “التسويق بالمحتوى” هي أصلاً تعتبر كجزء من الـ 80 منشور غير الإعلانية التي تبرزها خوارزميات الشبكات الاجتماعية، وعلى الرغم من ذلك يبقى هذا النوع من التسويق أقوى من أي مادة تظهر تحت بند “إعلان” لأن المستخدم ترسّخ لديه في اللاوعي أن “الدعاية والإعلان” شيء سلبي، بدليل لو أراد شخص أن يتحدث عن شخص غائب لقال “لا أريد أن أعمل له دعاية” لكن فلان فيه كذا وكذا.
“التسويق بالمحتوى” إعلان بلا إعلان.. وسلاح ذو حدّين
أعتقد أن التسويق بالمحتوى يبقى واحداً من أصعب طرق التسويق وأكثرها قدرةً على جني نتائج غير تقليدية، وفي نفس الوقت تحمل مخاطر الوقوع في المحظورات على صعيد مخالفة الأنظمة والقوانين حباً بالشهرة و “ركوب التريند” الذي قد ينتهي بالمحاكم، ولذلك أمثلة كثيرة لسنا بصدد ذكرها.
وأي محتوى قيّم لا يتوافق مع الخوارزميات، يشبه الكنز الذي تركه جدّك في منزله القديم لكنّك لا تستطيع العثور عليه.
لذا المعادلة بسيطة، محتوى مبتكر صديق للخوارزمية = انتشاراً كبيراً = وصولاً كبيراً = شهرة ومالاً.
التسويق بالمحتوى أشبه بـ “قل لي أنك عربي بدون أن تقول لي أنك عربي” أي قم بإيصال الفكرة، وحفّز دافع الشراء لدى العميل المحتمل بدون أن تقول له اشتر أو ادفع يا طويل العمر.
تم نشر هذا المقال مسبقاً على القيادي. لمشاهدة المقال الأصلي، انقر هنا