الرئيسية الاستدامة الاقتصاد الإبداعي: كيف تحوّل الأفكار إلى ذهب رقمي؟

الاقتصاد الإبداعي: كيف تحوّل الأفكار إلى ذهب رقمي؟

في عالمٍ تُقاس فيه الثروات بعدد الأفكار، لا بحجم المصانع، يُطلّ علينا الاقتصاد الإبداعيّ كمسرحٍ مفتوحٍ للحالمين، حيث تتحوّل المخيّلة إلى عُملةٍ صعبة، والإبداع إلى محرّكٍ تنمويّ

بواسطة فريق عربية.Inc
images header

في عالم اليوم حيث الأفكار أغلى من الذّهب، والخيال يزاحم النّّفط في قوائم الثّروات الوطنيّة، يبرز الاقتصاد الإبداعيّ مثل ماردٍ قويٍّ يحمل حقيبةً مليئةً بالفرص، هذا الاقتصاد ليس مجرّد أرقامٍ وجداول، بل هو رقصةٌ متقنةٌ بين الفنّ، الثّقافة، والتّكنولوجيا، حيث يمكن لصانع محتوى في غرفةٍ صغيرةٍ أن ينافس مصنعاً عملاقاً. 

فما هو سرّ هذا الكنز الخفيّ الّذي يحوّل الإلهام إلى استثمار؟ وكيف يمكن للخيال أن يصبح محرّكاً تنمويّاً؟ دعونا ننقب في أعماق هذا العالم المدهش، حيث الحدود بين العمل والابتكار تتلاشى.

ما هو تعريف الاقتصاد الإبداعيّ؟

الاقتصاد الإبداعيّ هو نظامٌ اقتصاديٌّ يعتمد على الإبداع البشريّ والأفكار المبتكرة كمصدرٍ رئيسيٍّ لإنتاج السّلع والخدمات ذات القيمة المضافة، يشمل هذا النّوع من الاقتصاد الصّناعات الثّقافية والإبداعية التّي تتراوح بين الفنون البصرية والأداء، التّصميم، الإعلام، النّشر، السّينما، الموسيقى، الألعاب الإلكترونيّة، والإعلانات، إضافةً إلى المجالات التّي تجمع بين الثّقافة والتّكنولوجيا مثل البرمجيّات والواقع الافتراضيّ.

يتميّز الاقتصاد الإبداعيّ بأنّه يربط بين الثّقافة، الابتكار، والتّكنولوجيا لتعزيز النّموّ الاقتصاديّ وخلق فرص عملٍ، مع التّركيز على استدامة الموارد الثّقافية والتّراثيّة، وإلى جانب دوره الاقتصاديّ، يعتبر الاقتصاد الإبداعيّ أداةً مهمّةً لتعزيز الهويّة الثّقافيّة، تشجيع التّنوع، وبناء مجتمعاتٍ أكثر شموليّةً.

كيف تنخرط في الاقتصاد الإبداعيّ؟

الانخراط في الاقتصاد الإبداعيّ أصبح أسهل من أيّ وقتٍ مضى، خاصةً في العصر الرّقميّ اليوم، إذ يمكنك ببساطةٍ إنشاء موقعٍ إلكترونيٍّ لبيع فنّك أو منتجاتك، أو إرسالها إلى موزعين متخصصين، أو المشاركة في المعارض والأسواق الفنية. كما يمكن أن تكون جزءاً من هذا الاقتصاد عبر دعم الفنانين وشراء أعمالهم.

يحرص المبدعون من مختلف المجالات على الاشتراك في فعالياتٍ فنيةٍ وحجز أماكن مخصّصةٍ لعرض منتجاتهم وبيعها مباشرةً للجمهور، بعض المعارض تركّز على أنواعٍ محدّدةٍ من المنتجات، بينما تفتح أخرى أبوابها لمجموعةٍ متنوعةٍ من التّخصصات الفنية، مما يتيح الفرصة لاستقطاب جمهورٍ واسعٍ بأذواق مختلفةٍ.

في كثيرٍ من الأحيان، يعتمد المبدعون على مبيعات المتاجر المادية، مع تعزيز دخلهم من خلال البيع عبر الإنترنت، وحضور الفعاليات مثل الأسواق الإبداعية، المتاجر المؤقتة (pop-ups)، ومعارض الحرفيين يعدّ وسيلةً مثاليّةً لاكتشاف فنانين جددٍ أو دعم المبدعين المفضّلين لديك بشكلٍ منتظمٍ [1].

كيف يتغير الاقتصاد الإبداعيّ؟

يتوقع الخبراء أن ينمو الاقتصاد الإبداعيّ بنسبةٍ تصل إلى 40% بحلول عام 2030، وهي قفزةٌ كبيرةٌ في وقتٍ قصيرٍ نسبيّاً من منظور النّموّ الاقتصادى.

هذا الاتجاه يعكس تحول المستهلكين نحو البحث عن منتجاتٍ فريدةٍ تضفي البهجة على حياتهم اليومية، تقدّم حلولاً مبتكرةً لمشاكلهم المعتادة، وتقلّل اعتمادهم على الشّركات الكبرى، الآن هو الوقت المثاليّ للمبدعين لتحويل هواياتهم إلى مشاريعٍ تجاريةٍ مربحةٍ، وتسويق منتجاتهم على نطاقٍ أوسع للوصول إلى جمهورٍ عالميٍّ [1].

الاقتصاد الإبداعيّ: محركٌ جديدٌ للنموّ في العالم العربيّ

لا يمكن إنكار أنّ الاقتصاد الإبداعيّ اليوم أحد أسرع القطاعات نموّاً على مستوى العالم، حيث يجمع بين الفنون والثّقافة والابتكار التّقنيّ لتحويل الإبداع إلى قيمةٍ اقتصاديةٍ ملموسةٍ، فهو منظومةٌ تشمل الصّناعات الثّقافية والإبداعية، مثل السّينما، التّصميم، الإعلام، الفنون البصرية، الألعاب الرّقمية، وحتى الطّهو، والتّي تعتمد على رأس المال الفكريّ والإبداعيّ كموردٍ أساسيٍّ.

في العالم العربيّ عموماً، وفي دول الخليج العربيّ خصوصاً، شهد الاقتصاد الإبداعيّ قفزاتٍ نوعيّةٍ في السّنوات الأخيرة، الإمارات، على سبيل المثال، أصبحت مركزاً إقليمياً بارزاً بفضل مبادراتٍ مثل "حيّ دبي للتصميم" و"مدينة دبي للإعلام"، التّي تستقطب المواهب، وتوفر بنيةً تحتيةً متكاملةً لدعم الصّناعات الإبداعية، وفي السّعودية، يلعب "موسم الرّياض" دوراً محورياً في تنشيط السّياحة الثّقافية والفنون، حيث يستقطب ملايين الزّوار، ويخلق فرص عملٍ في قطاعاتٍ متنوعةٍ، أما في مصر، فتعدّ السّينما والموسيقى جزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد الوطنيّ، إذ تنتج القاهرة أكبر عددٍ من الأفلام والأعمال الدّرامية في المنطقة.

هذا النّموّ المتسارع يؤكّد أنّ الاقتصاد الإبداعيّ ليس مجرد أداةٍ اقتصاديةٍ، بل هو قوةٌ دافعةٌ تعزّز الهوية الثّقافية، وتفتح آفاقاً جديدةً للتنمية المستدامة في المجتمعات العربية. ومع دعم الحكومات للمواهب والمشاريع النّاشئة، يبدو أنّ العالم العربيّ على مشارف ثورةٍ إبداعيةٍ قادرةٍ على ترك بصمةٍ عالميةٍ.

أضف إلى ذلك، فإنّ الدّول الخليجيّ التّي تبحث عن تنويع اقتصادها خارج إطار النّفط فقط، تجد في الاقتصاد الإبداعيّ فرصةً ثمينةً ولحسن الحظ، فإنّ استغلال تلك الفرصة يتم بطريقةٍ مثمرةٍ حقّاً.

الإمارات العربية المتحدة في طليعة التّحول الإبداعي

تقدّر قيمة الاقتصاد الإبداعيّ على مستوى العالم بـ2.25 تريليون دولار أميركي، أي ما يعادل 10 بالمئة من النّاتج المحلي الإجماليّ العالميّ، وفي المنطقة العربية تقدّم الإمارات العربية المتحدة هذا التّحوّل العالميّ من خلال استثماراتٍ استراتيجيةٍ تهدف إلى الاستفادة من فرص الابتكار التّي يوفّرها القطاع الإبداعيّ وتعزيز التّنوع الاقتصاديّ، حيث تسعى إلى بناء مستقبلٍ تكون فيه الإبداعيّة عنصراً أساسياً ليس فقط في الاقتصاد، بل كمحرّكٍ رئيسيٍّ للنجاح الاقتصاديّ.

ففي عام 2021، أطلقت الإمارات الاستراتيجية الوطنية للصناعات الثّقافية والإبداعية بهدف زيادة مساهمة هذا القطاع إلى 5% من النّاتج المحليّ الإجماليّ بحلول عام 2031، وتشمل الاستراتيجية 40 مبادرةً تهدف إلى تطوير المواهب، دعم المحترفين، وتهيئة بيئة أعمالٍ مثاليةٍ.

وفي نفس العام، أطلق صاحب السّموّ الشّيخ محمد بن راشد آل مكتوم استراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعيّ، التّي تهدف إلى رفع مساهمة القطاع الإبداعيّ في النّاتج المحليّ لدبي من 2.6% إلى 5% بحلول عام 2025، ومضاعفة عدد العاملين في القطاع من 70,000 إلى 140,000.

وقال صاحب السّموّ الشّيخ محمد بن راشد آل مكتوم حينها إنّ "الإمارات هي عاصمةٌ اقتصاديةٌ عالميةٌ، والإبداع جزءٌ من اقتصادنا وجودة حياتنا، ومحرّكٌ رئيسيٌّ لمستقبل دولتنا".

كما تعمل حكومة الإمارات على جذب المواهب العالمية وتعزيز التّبادل الثّقافيّ عبر سياساتٍ وبرامجٍ متعددةٍ، منها استراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعيّ، برنامج التّأشيرة الثّقافية، وتطوير مراكز إبداعيةٍ مثل مدينة دبي للإنترنت وحيّ دبي للتصميم، كما توفّر استراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعيّ حزم دعمٍ وأدواتٍ تمكّن المبدعين من تلبية متطلّبات السّوق المتغيرة.

باختصارٍ، يمتلك قطاع الصّناعات الإبداعية في الإمارات إمكانياتٍ هائلةٍ، وتوفّر المنصات الكثيرة فرصاً لتحويل الأفكار الإبداعية والنّماذج التّجارية إلى استثماراتٍ مربّحةٍ.

إذاً، تركّز رؤية الإمارات على ترسيخ مكانتها كوجهةٍ ثقافيةٍ عالميةٍ وتوسيع اقتصادها من خلال الصّناعات الإبداعية، ولا يقتصر هذا التّركيز على تعزيز الاقتصاد فحسب، بل يسعى أيضاً إلى تحسين القيم الاجتماعية، تحقيق التّنمية المستدامة، وترسيخ مكانة الدّولة كقائدةٍ في النّموّ الثّقافيّ والإبداعيّ [2].

الصّناعات الإبداعية: ركيزةٌ أساسيةٌ للمشهد الثّقافيّ في السّعودية

وفي المملكة العربية السّعودية لا يختلف المشهد كثيراً، فهناك إرادةٌ حقيقيةٌ لتنويع الاقتصاد وخروجه من الاقتصار على النّفط، واليوم تلعب الصّناعات الإبداعية دوراً محورياً في إثراء المشهد الثّقافيّ في المملكة العربية السّعودية، حيث توفّر التّنوع والثّراء الثّقافيّ، إذ تدرك الحكومة السّعودية أهمية هذا القطاع النّاشئ، فجعلته أحد ركائز رؤية المملكة 2030، التّي تهدف إلى رفع مساهمة القطاع في النّاتج المحليّ الإجماليّ إلى 3%، وتحقيق إيراداتٍ تصل إلى 20 مليار دولارٍ، بالإضافة إلى خلق أكثر من 100,000 فرصة عملٍ بحلول عام 2030.

لتحقيق هذه الأهداف، تستثمر الحكومة في البنية التّحتية والمبادرات الدّاعمة لنموّ القطاع، بما في ذلك إنشاء مراكز إبداعيةٍ جديدةٍ، وتوفير برامج التّدريب والتّطوير، وتعزيز الشّراكات بين القطاعين العامّ والخاصّ.

كذلك أكّدت وزارة الثّقافة السّعودية أنّ رؤيتها 2030 تتمثل في "ازدهار الفنون والثّقافة في جميع أنحاء المملكة لتعزيز جودة الحياة، والاحتفاء بالهوية الوطنية، وبناء جسور التّفاهم بين الشّعوب"، وقد تمّ إنشاء هذه الوزارة بمرسومٍ ملكيٍّ عام 2018 بهدف حماية وتعزيز القطاع الثّقافيّ داخل المملكة وخارجها.

منذ ذلك الحين، تشهد السّاحة الثّقافية والفنية السّعودية نهضةً ملحوظةً، حيث بدأ الفنانون السّعوديون في تحقيق اعترافٍ عالميٍّ بإنجازاتهم، وتظهر الإنجازات تسارعاً واضحاً، فمنذ تأسيس الوزارة، استضافت المملكة أسبوع الموضة العربيّ للمرة الأولى، وفي 2021 كشفت النّقاب عن جناحها الوطنيّ الجديد في مهرجان كان السّينمائيّ، مما أتاح لصانعي الأفلام السّعوديين عرض مواهبهم والتّواصل مع قادة الصّناعة العالميين.

تعكّس الفنون والموسيقى والأزياء الهوية الوطنية السّعودية، ويؤدي القطاع الإبداعيّ دوراً حيوياً في الحفاظ على هذه الكنوز الثّقافية والتّرويج لها، ومن خلال التّركيز على الصّناعات الإبداعية، تسعى المملكة أيضاً إلى تنويع اقتصادها، إذ تدرك الحكومة أنّ لتحقيق أهداف رؤية 2030، لا بدّ من توسيع قاعدة الاقتصاد وتحديثها، ولأنّ العديد من القطاعات الأخرى ذات طابعٍ تنافسيٍّ أو مستقرٍّ، فإن توجيه الأنظار نحو القطاع الإبداعيّ، بصفته قطاعاً ناشئاً ذو إمكانيات نموٍّ كبيرةٍ، يعكّس استراتيجيةً حكيمةً لتمكين المملكة من الرّيادة عالمياً في هذا المجال.

علاوةً على ذلك، يساهم قطاعٌ إبداعيٌّ قويٌّ ونشطٌ في تعزيز صورة المملكة على السّاحة الدّولية، وجذب السّياح، وتوفير فرصٍ للسعوديين للتعبير عن إبداعاتهم وهوياتهم، كما أنّ هذا القطاع يحمل إمكاناتٍ هائلةً لتوفير الوظائف التّي تحتاجها الأجيال الشّابة، إلى جانب توفير مصادر دخلٍ مستدامةٍ للاقتصاد [3].

التّسويق كأداةٍ لتعزيز مكانة المملكة

تولي الحكومة السّعودية أهميةً كبيرةً للتسويق، إذ تعي أن بناء علامةٍ تجاريةٍ قويةٍ للمملكة أمرٌ ضروريٌّ لجذب اهتمام المستثمرين والزّوار في المستقبل، ويعتبر القطاع الإبداعيّ مفتاحاً لتحقيق ذلك، حيث يمكنه تطوير حملاتٍ تسويقيةٍ مبتكرةٍ وفعالةٍ تبرز المملكة كوجهةٍ للأعمال والتّرفيه.

يلعب التّصميم أيضاً دوراً مهماً في تسويق المملكة للعالم، حيث يستخدم المصممون السّعوديون إبداعاتهم للتعبير عن قيم المملكة وطموحاتها، ورسم صورةٍ مستقبليةٍ تجمع بين الإلهام والواقعية، وفي وقتٍ سابقٍ من عام 2022، أطلقت هيئة العمارة والتّصميم مهرجان التّصميم السّعوديّ في الرّياض، وهو حدثٌ امتدّ لـ21 يوماً، وهدف إلى إعداد الجيل القادم من المصممين السّعوديين لدخول الأسواق العالمية. ومن خلال التّصميم، يمكن للمملكة استعراض مكانتها الفريدة على مستوى العالم وجذب المستثمرين والزّوار.

لتحقيق أهدافها الطّموحة، يتعيّن على الصّناعات الإبداعية في المملكة مواصلة النّموّ والتّطور، هذا القطاع ليس مجرد رافدٍ اقتصاديٍّ، بل جزءٌ أساسيٌّ من رؤية المملكة المستقبلية، عبر الاستثمار فيه اليوم، ستحصد المملكة الفوائد لسنواتٍ قادمةٍ [3].

تمتلك السّعودية إرثاً ثقافيّاً غنيّاً وتراثاً عريقاً، والحفاظ على تقاليدها يعدّ ضرورةً أساسيّةً، ومع ما تتمتع به المملكة من جمال طبيعيٍّ ومواهب بشريّةٍ، فإنها مؤهّلةٌ لتحقيق نجاحٍ كبيرٍ في القطاع الإبداعيّ، ومع الاستثمارات الاستراتيجية والدّعم الحكوميّ، لا حدود لما يمكن أن يحقّقه هذا القطاع في المستقبل.

وفي النّهاية، يبقى الاقتصاد الإبداعيّ أشبه بمسرحٍ كبيرٍ يتسع للجميع، حيث كلّ فكرةٍ مبتكرةٍ هي نجمٌ صاعدٌ، وكلّ إبداعٍ هو خطوةٌ نحو غدٍ أكثر إشراقاً، إنه الاقتصاد الذي لا يعتمد فقط على الموارد التّقليدية، بل يستثمر في العقول والخيال، ليخلق فرصاً غير محدودةٍ من العدم، وبينما تسير التّكنولوجيا جنباً إلى جنبٍ مع الفنّ والثّقافة، فإن الطّريق نحو النّجاح في هذا العالم الجديد يبدأ بسؤالٍ بسيطٍ: ماذا لو كانت أعظم أصولك هي أفكارك؟ لذا، أطلق العنان لخيالك... فمن يدري؟ ربما تكون فكرة اليوم هي ثروة الغد!

تابعونا على قناتنا على واتس آب لآخر أخبار الستارت أب والأعمال
آخر تحديث:
تاريخ النشر: