الرئيسية تكنولوجيا نصائح مجاهد عقيل لرواد الأعمال السوريين: هكذا تُبنى الشركات

نصائح مجاهد عقيل لرواد الأعمال السوريين: هكذا تُبنى الشركات

نصائح عمليّة من مجاهد عقيل، الشّريك المؤسّس لـ"ديجيتال سوريا"، حول تأسيس الشّركات التّقنيّة، مواجهة التّحديات المحليّة، اختيار القطاعات المناسبة، وبناء فرق عملٍ قويّة في السّوق السّوري

بواسطة فريق عربية.Inc
images header

شهدت سورية في الأشهر السّتّة الأخيرة انفجاراً في وتيرة التّحوّلات السّياسيّة والاقتصاديّة، لم تعرفه البلاد منذ عقودٍ. فمع بدء الانفتاح الجزئيّ وبداية موجة رفعٍ تدريجيٍّ للعقوبات الدّوليّة، الّتي شملت منع تحويل الأموال، وتقييد الاستيراد وتجميد أصولٍ عديدةٍ، ولد أملٌ جديدٌ لدى جيلٍ كاملٍ من روّاد الأعمال والمهندسين والمبرمجين السّوريّين الّذين عاشوا سنين من الحصار والتّهميش. فجأةً، صار الحديث عن الاقتصاد الرّقميّ، والشّركات النّاشئة، وحكومةٍ بلا أوراقٍ، جزءاً من واقعٍ يوميٍّ لم يكن يخطر على البال قبل أشهرٍ قليلةٍ.

فتح هذا الانفراج النّسبيّ، الباب أمام عودة الكفاءات السّوريّة من الخارج، وأطلق سباقاً محموماً بين الوزارات والمبادرات الخاصّة لرقمنة الخدمات وتسهيل الاستثمار. وقد تزامن مع صدور قراراتٍ غير مسبوقةٍ: إلغاء التّراخيص المسبقة لتطوير التّطبيقات [1]، والسّماح بالمدفوعات الرّقميّة، وتبنّي سياسات انفتاحٍ جديدةٍ تجاه الشّراكات الإقليميّة، وكلّها غيّرت قواعد اللّعبة أمام جيل الشّباب.

في هذا المشهد، برزت أسماءٌ قليلةٌ تجاوزت دور المراقب، لتصير من قادة التّغيير الرّقميّ. من هؤلاء برز مجاهد عقيل، الشّريك المؤسّس ومدير العلاقات العامة في "ديجيتال سورية"، رائد أعمالٍ سوريٍّ ينتمي لجيل ما بعد الثّورة، عمل في تركيا والخليج، زار مؤخّراً دمشق ليشارك في تأسيس مجتمع "ديجيتال سورية" الّذي يسعى إلى تمكين المواهب المحلّيّة، وربطها بمنصّات التّدريب والاستثمار العالميّة.

أحدث محطّاته كان توقيع مذكّرة تفاهمٍ استراتيجيّةٍ مع منصّة "قوام" السّعوديّة [2]، بهدف تطوير منظومة ريادة الأعمال السّوريّة وجذب استثماراتٍ إقليميّةٍ لدعم المشاريع النّاشئة. ومن هنا جاء قرارنا في مجلّة "عربية .Inc" أن نلتقي هذا الشّابّ الّذي اختبر المنفى والنّجاح والعودة، لنستكشف رؤيته لمستقبل الاقتصاد الرّقميّ في "سورية" الجديدة، وننقل خلاصة تجربته، في حوارٍ هو الأشمل منذ بدء التّحوّلات الأخيرة.

واقع الابتكار والمهارات في الدّاخل السّوري

من بين كلّ الأسئلة، كان يشغلنا سؤالٌ جوهريٌّ: كيف يصمد الابتكار أمام ضيق المورد وتهالك الشبكة، وكيف لا تغدو التكنولوجيا ترفاً مؤجلاً حين تصير الحياة اليومية حقل اختبارات بلا رحمة؟

لا يرى مجاهدٌ عقيلٌ في الصّعوبات سوى اختبارٍ مستمرٍّ لجدوى الأفكار. يقول: "الحياة في سورية اليوم مليئةٌ بالتّحدّيات الاستثنائيّة. البنية التّحتيّة هشّةٌ، والكهرباء والإنترنت متقطّعةٌ، والمشاكل اليوميّة لا تنتهي. ولكن وسط هذا كلّه، يكمن جوهر الابتكار السّوريّ. الشّباب هنا، بخلاف ما يتصوّره البعض، لا يبتكرون من باب التّرف أو حبّ الاستكشاف فقط؛ بل يدفعهم الواقع الصّعب لالبحث عن حلولٍ عمليّةٍ لمشاكل حياتهم اليوميّة".

ويضيف: "الشّباب الّذين يعايشون الصّعوبات كلّ يومٍ هم الأقدر على تلمّس حلولٍ لا تستورد من الخارج، بل تتخلّق من صميم الحاجة".

وبالحديث عن المشكلات اليوميّة، سألنا مجاهد عقيلاً، الّذي اعتاد أن يبدأ كلّ مشروعٍ بحلٍّ لأزمةٍ عاشها بنفسه، من "غربتنا" إلى "ترجملي" و"جوعان"، كيف يستطيع الشّابّ السّوريّ اليوم، وسط كثرة المشاكل، أن يحدّد أيّ مشكلةٍ جديرةٍ بالحلّ؟

يجيب مجاهدٌ: "لا بدّ من الفرز المرحليّ: ثمّة حلولٌ عاجلةٌ لا غنى عنها الآن فتعجّل التّنمية، ثمّ تطوّر حلولٌ لاحقةٌ. في تقديري، أهمّ قطاعين هما اللّوجستيّات والخدمات الماليّة التّقنيّة، لأنّهما أساس التّجارة الإلكترونيّة وكلّ نشاطٍ اقتصاديٍّ".

ويكمل: "العائق الأوّل اللّوجستيّات، والثّاني الدّفع الإلكترونيّ. تصطدم التّجارة الإلكترونيّة في سورية بهذين الحاجزين. بل كلّ الأعمال تحتاج إلى لوجستيّاتٍ وفينتك، وهذان المجالان غير مكتملين كما ينبغي. بدأت حلول الفينتك بالظّهور، والدّولة تتّجه إلى مجتمعٍ لا نقديٍّ، وهذا داعمٌ مهمٌّ. أمّا اللّوجستيّات فمشكلاتها كبيرةٌ، لكنّها في الوقت ذاته ميدانٌ رحبٌ لحلولٍ رائدةٍ زهيدة الكلفة إذا عولجت بأسلوبٍ سليمٍ".

ولمّا عاش المجتمع السّوريّ في عزلةٍ شبه تامّةٍ، مغيّباً عن الأسواق العالميّة وأحدث تجارب ريادة الأعمال، أصبح اكتساب المهارات مسألة حياةٍ أو موتٍ لأيّ شابٍّ يريد أن يؤسّس مشروعاً رقميّاً ناجحاً. في هذا السّياق، توجّهنا بالسّؤال إلى مجاهدٍ عقيلٍ، الّذي خبر سوق العمل في الدّاخل والخارج، عن المهارات الحيويّة الّتي يحتاجها خريج التّخصّصات التّقنيّة اليوم حتّى يستطيع أن يقود مشروعاً رقميّاً ويواكب التّحوّلات.

فأجاب: "أوّل ما يحتاجه الشّباب هو عقليّة ريادة الأعمال، أي القدرة على التّفكير بأسلوب حلّ المشكلات، وتحمّل المخاطرة المحسوبة، وتبنّي فكرة "الشّركة النّاشئة المرنة" (Lean Startup)، وهي منهجيّةٌ تركّز على التّجربة السّريعة للأفكار واختبارها في السّوق بموارد محدودةٍ قبل التّوسّع، بدل الاستثمار الكبير في فكرةٍ غير مجرّبةٍ".

ويضيف: "نجاح أيّ مشروعٍ رقميٍّ اليوم يتطلّب قيادة فريقٍ متعدّد التّخصّصات: من المبرمجين إلى المسوّقين والإداريّين، مع تقبّل مبدإ الشّراكة والانفتاح على التّعاون بدل الإصرار على الاحتكار الفرديّ".

كذٰلك أكّد مجاهدٌ على ضرورة إتقان إدارة المشروع، والقدرة على التّواصل مع المستثمرين بوضوحٍ واحترافٍ. وشدّد على ضرورة إتقان لغة الأرقام والتّحليل الماليّ الواقعيّ، لأنّ المستثمرين يقرؤون البيانات قبل القصص. وأخيراً، نبّه إلى أهمّيّة الإلمام بالأساسيّات التّقنيّة الضّروريّة، ولو لم يكن الرّياديّ نفسه مبرمجاً.

يقول مجاهدٌ: "يجب على صاحب المشروع أن يفهم على الأقلّ بنية النّظم السّحابيّة، وكيفيّة التّعامل مع "واجهات برمجة التّطبيقات" (APIs)، بالإضافة إلى معرفة أسس الأمان السّيبرانيّ لحماية بيانات المشروع من الاختراقات الرّقميّة".

وهنا كان لا بدّ من التّوقّف عند السّؤال التّالي: كيف يكتسب الشّابّ السّوريّ اليوم هذه المهارات فعليّاً، في ظلّ قلّة الموارد وصعوبة الوصول إلى الخبرات العالميّة؟

يرى مجاهدٌ أنّ: "أهمّ ما أنصح به هو الاختلاط المباشر مع روّاد أعمالٍ خارج الحدود؛ فحضور المؤتمرات والمعارض الدّوليّة يفتح عيون الشّابّ على تجارب أكثر نضجاً".

ولكنّه يضيف أنّ السّفر ليس متاحاً دائماً، ولهذا: "ينبغي على الحاضنات والمسرّعات والجمعيّات المحلّيّة أن تدرج تكاليف المشاركة الخارجيّة ضمن برامجها".

وفي حال تعذّر السّفر، يؤكّد مجاهدٌ على أهمّيّة المبادرات المحلّيّة والفعّاليّات الّتي تجمع روّاد الأعمال السّوريّين في الدّاخل والخارج، مثل مؤتمر SYNC’25 ومعسكر "نهضة"، الّلذين وفّرا ورش عملٍ ولقاءاتٍ مع خبراء ومختصّين من بلدانٍ متعدّدةٍ.

ويلخص فكرته بقوله: "حين يرى الرّياديّ، على الطّبيعة، كيف تدار شركةٌ ناشئةٌ في بيئةٍ متقدّمةٍ، يتضاعف إدراكه لما ينقصه ولما يمكن استنساخه".

خارطة الأولويات الرقمية في سورية اليوم

بينما يبحث كثيرٌ من الشّباب عن "القطاع الذّهبيّ" الّذي يحمل أكبر فرصةٍ للحلول الرّقميّة في سوريا، يجيب مجاهدٌ عقيلٌ بصورةٍ عمليّةٍ، فيقول: "أختصر الصّورة في ركيزتين أساسيّتين سبق وذكرتهما: اللّوجستيّات والخدمات الماليّة التّقنيّة".

يفسّر مجاهدٌ أنّ الفجوة في اللّوجستيّات لا تزال هائلةً. يقول: "لا وجود لشركة شحنٍ تقدّم خدمة "360 درجةً" كالّتي تراها في الدّول المتقدّمة. كلّ قطاعٍ يعتمد على نقل البضائع، من التّجارة الإلكترونيّة إلى بقّالة الزّاوية، يبقى معطّلاً ما لم تقلع منظومةٌ لوجستيّةٌ متكاملةٌ".

أمّا المحور الثّاني فهو الخدمات الماليّة التّقنيّة، الّتي بدأت تشهد تحوّلاتٍ كبيرةٍ، خاصّةً بعد قرار الدّولة الأخير بتحويل الرّواتب إلى محافظ رقميّةٍ. يوضّح مجاهدٌ:
"يشهد الدّفع الإلكترونيّ بوادر تحوّلٍ جذريٍّ بعد قرار الدّولة بتحويل الرّواتب إلى محافظ رقميّةٍ. خلال ستّة أشهرٍ، ستضطرّ المتاجر كلّها إلى قبول الدّفع دون نقدٍ، ما يخلق سوقاً ضخمةً لالتّطبيقات والمحافظ وحلول الأمان السّيبرانيّ".

وتعقيباً على الخدمات الماليّة الرّقميّة، يُثار كثيراً في النّقاشات المحلّيّة سؤالٌ حول مدى جاهزيّة المجتمع السّوريّ فعليّاً لتبنّي الدّفع الإلكترونيّ، خاصّةً في ظلّ المخاوف الكبيرة من مخاطر الأمن السّيبرانيّ.

يجيب مجاهدٌ عقيلٌ على هذه المخاوف بوضوحٍ، ويقول: "حجّة "الأمن السّيبرانيّ" تُطرح حتّى في أكثر دول العالم تقدّماً، ومع ذلك لم توقفهم عن التّحوّل إلى اقتصادٍ لا نقديٍّ. والمسألة تُعالج بثلاثة محاور أساسيّةٍ:

أوّلاً: تقنيّات الحماية، أي تفعيل الطّبقات المتعدّدة لالتّحقّق (Multi-Factor Authentication - MFA)، إلى جانب وضع حدودٍ لالتّحويل اليوميّ بشكلٍ ذكيٍّ، بحيث يصعب على أيّ محاولة اختراقٍ أن تُسبّب ضرراً كبيراً بسرعةٍ.

ثانياً: التّوعية المستمرّة، من خلال رسائل تحذيرٍ فوريّةٍ تُنبّه المستخدم عند أيّ عمليّةٍ مريبةٍ أو محاولة وصولٍ غير معتادةٍ، حتّى يبقى دائماً على درايةٍ بأيّ خطرٍ.

ثالثاً: التّشريعات الذّكيّة، أي سنّ قوانينٍ مرنةٍ ولكن صارمةٍ في الوقت نفسه، تُلزم المزوّدين (الشّركات والمنصّات) بتعويض الضّحايا عند ثبوت الإهمال التّقنيّ أو حدوث خرقٍ أمنيٍّ كان يمكن تفاديه".

من الفكرة إلى التّطبيق: الانطلاق المحلّيّ

مع صدور القرار الحكوميّ في 16 نيسان 2025، الّذي ألغى التّراخيص المسبقة لتطوير التّطبيقات الإلكترونيّة، انفتح أمام روّاد الأعمال السّوريّين باب التّجربة والابتكار من دون حواجز بيروقراطيّةٍ. لكن، رغم سهولة الانطلاق، يبقى التّحدّي الأكبر في الاستمراريّة وبناء مشروعٍ صلبٍ وقابلٍ للنّموّ.

نصائح عقيل لكل من يمتلك تطبيقاً جاهزاً ويريد دخول السوق فعليّاً:

أوّلاً: لا تُفر‌ط في البحث عن تمويلٍ قبل أن تبني نموذجاً أوّليّاً ‎(Minimum Viable Product – MVP)‎ وتثبت من خلاله تفاعل المستخدمين واهتمامهم الفعليّ. البرهان في الميدان أهمّ من الخطط على الورق، والمستثمر الحقيقيّ يبحث عن نتائج ملموسةٍ لا عن أفكارٍ مجرّدةٍ.

ثانياً: عندما تبدأ بتحقيق دخلٍ أوّليٍّ من مشروعك، اجعل الأولويّة لتحسين المنتج وتطوير تجربة المستخدم، لا للإنفاق على الحملات الإعلانيّة. فالمستخدمون الأوائل هم رأس مالك الحقيقيّ، وكلّما حسّنت تجربتهم زاد انتشار منتجك بشكلٍ طبيعيٍّ عبر التّوصية المباشرة.

ثالثاً: تمسّك بمبدأ Bootstrapping، أو "التّمويل الذّاتيّ"، أي أن تعتمد على مواردك الخاصّة في الأشهر الأولى، سواءً من مدّخراتك، أو من عوائد المشروع نفسه، أو حتّى من جهدك الشّخصيّ بلا تمويلٍ خارجيٍّ. هذا المنهج لا يظهر فقط قدرتك على إدارة المخاطر، بل يثبت لأيّ مستثمرٍ محتملٍ أنّك قادرٌ على تحمّل مسؤوليّة مشروعك ودفعه إلى الأمام في أصعب الظّروف. إذا لم تستطع الصّمود بهذه الطّريقة، فغالباً لن يقتنع بك مستثمرٌ حقيقيٌّ.

الطريق إلى الاستثمار

مع تصاعد موجة القرارات الجديدة الّتي تسعى إلى تحرير بيئة الأعمال في سورية، برز تساؤلٌ جوهريٌّ: هل يمكن لهذه السّياسات أن تجذب المستثمرين، ولا سيّما القادمين من الخارج، إلى القطاع التّقنيّ؟ وكيف سينعكس ذٰلك على مشاريع روّاد الأعمال في الدّاخل؟

في هذا السّياق، يشير مجاهدٌ عقيلٌ إلى عائقٍ نفسيٍّ قبل أن يكون تشريعيّاً: خوفٌ متبادلٌ يفصل بين المستثمر الأجنبيّ ورائد الأعمال السّوريّ. ففي الوقت الّذي يخشى فيه الرّياديّ المقيم من أن يفقده الشّريك الخارجيّ سلطته ودوره بتفوّقه من ناحية التمويل، يتوجّس المستثمر القادم من المجهول: بيئةٌ قصيّةٌ، وسوقٌ مركّبةٌ، وفجوةٌ في الفهم الثّقافيّ والعمليّ ويخشى أن يشاطره "حصّته".

وهنا يميّز مجاهدٌ بين المخاوف الشّرعيّة وتلك المتخيّلة، فيؤكّد أنّ رأس المال وحده لا يكفي، وأنّ الحلّ يكمن في شراكةٍ حقيقيّةٍ ومتوازنةٍ بين الطّرفين. يقول: "يقدّم المستثمر التّمويل والخبرة العالميّة، ويجلب الرّائد المحلّيّ فهم السّوق والموارد وشبكة العلاقات. التّعاون هنا ليس ترفاً، بل ضرورةٌ لتجاوز مخاطر الدّخول الأوّل".

وعلى المستوى الحكومي، يشدّد مجاهدٌ على أهمّيّة اتّباع نموذجٍ دعميٍّ يشبه ما فعلته تركيا بعد سنة 2012، حيث فرضت وزاراتها المختصّة ضوابط تفضّل الشّركات المحلّيّة وتوفّر لها مهلةً للنّموّ قبل فتح الأبواب أمام التّنافس الأجنبيّ. فتطوّرت مشاريع مثل (BiTaksi) حتّى تفوّقت محلّيّاً على (Uber)، وبرزت شركاتٌ مثل (Trendyol) التي نافست (Amazon) داخل السوق التركيّ، وكذلك (Getir) الّتي بدأت كفكرةٍ محلّيّةٍ للتوصيل الفوريّ ثمّ تحوّلت إلى شركةٍ عالميّةٍ ناشطةٍ في أوروبا والولايات المتّحدة، قبل أن تعيد التّموضع استراتيجيّاً لتركّز على الأسواق الأكثر ربحيّةً. 

ويختم قائلاً: "الحلّ الأمثل هو التّشارك: يدخل المستثمر برأس المال، ويأتي المؤسّس المحلّيّ بخبرته وشبكته. إذا بقي الطّرفان أسيري منطق "حصّتي وحصّتك"، سيخسران سباق الزّمن؛ فالفرص في البلاد لا تحتمل التّأجيل الطّويل".

ديجيتال سوريا: صلة الوصل

رغم ما تبذله بعض الشّركات السّوريّة من جهدٍ حثيثٍ لتطوير منتجاتٍ رقميّةٍ تناسب واقع السّوق، فإنّ المشهد الرّياديّ داخل البلاد لا يزال في مرحلةٍ جنينيّةٍ.
لم تتجاوز معظم المشاريع البدايات، والقليل ممّن وصلوا إلى حجم سوقٍ معتبرٍ يفتقرون إلى الإلمام بأساسيّات الجولات الاستثماريّة: لا خبرة لديهم في إعداد ملفّات الاستثمار (Data Room)، ولا فهماً واضحاً لكيفيّة تقديم قيمةٍ ماليّةٍ مقنعةٍ للمستثمرين.

هؤلاء، كما يقول مجاهد، في مواجهة خطرٍ حقيقيٍّ؛ فقد ينقضّ عليهم من يملك تمويلاً محدوداً ولٰكن يفقه قواعد اللّعبة.

في هذا السّياق، أجرت المنصّة الّتي يعمل عليها مجاهدٌ، ديجيتال سوريا، استبياناً داخليّاً حصر مجموعةً من المشاريع النّاشئة الّتي أتمّت ما يعرف بـ"التّحقّق من جدوى الفكرة" (Validation)، ووصلت إلى "ملاءمة المنتج/السّوق" (Product-Market Fit)، لكنّها بقيت عاجزةً عن الدّخول في أيّ جولةٍ تمويليّةٍ جادّةٍ. ومن هنا، لم يكن إطلاق برنامجٍ تدريبيٍّ استثماريٍّ مجرّد فكرةٍ تنظيريّةٍ، بل استجابةً لحاجةٍ موثّقةٍ في السّوق.

وجاء التّعاون مع الحاضنة الافتراضيّة السّعوديّة "قوام" ليؤسّس برنامجاً مزدوج المسار: من جهةٍ، يدرّب روّاد الأعمال السّوريّين على إعداد الملفّات الماليّة، وصياغة عروض الاستثمار، ووضع الخطط الماليّة والاستراتيجيّة القابلة للفحص والتّحقّق.

ومن جهةٍ أخرى، يطلق حملاتٍ توعويّةً موجّهةً للمستثمرين في الخارج، تشرح القوانين السّارية، وتبني ثقة الحدّ الأدنى لتمرير الأموال بأمانٍ قانونيٍّ وعمليٍّ.

هكذا بات البرنامج يشكّل نقطة وصلٍ بين طرفين يبحث كلٌّ منهما عن الآخر: شركاتٌ ناشئةٌ في الدّاخل عطشى للتّمويل، ومستثمرون في الخارج يجهلون طريق الدّخول إلى السّوق، رغم اهتمامهم المتزايد.

ويشدّد مجاهدٌ على أنّ البرنامج يمنح أسبقيّةً واضحةً لروّاد الأعمال المحلّيّين؛ إذ إنّ مبلغاً لا يتجاوز ‎50,000‎ دولارٍ قادرٌ على إحداث تأثيرٍ عميقٍ داخل البلاد نظراً لانخفاض التّكاليف، ما يجعله استثماراً عالي الجدوى بالمقارنة مع الأسواق المجاورة.

أمّا معيار النّجاح الأهمّ، برأي مجاهدٍ، فهو عدد الشّركات الّتي يتمكّن البرنامج من نقلها "من حالٍ إلى حالٍ": من مجرّد نموذجٍ أوّليٍّ إلى مشروعٍ مموّلٍ جاهزٍ للانطلاق.

تمكين الكوادر عبر الحوافز المجتمعيّة

من التّحدّيات المستمرّة في القطاع التّقنيّ السّوريّ اليوم النّقص في الكـوادر المؤهّلة، وهو ما واجهه مجاهدٌ عقيلٌ أثناء بناء مشروع "جوعان" في تركيا. لم يكن ممكناً منافسة الشّركات الكبرى على مستوى الرّواتب أو العمولات، فكان لا بدّ من إيجاد حوافز عمليّةٍ تعزّز من استقرار الفريق وولائه.

من هنا جاءت مبادرة "موتورك هديّة" [3]، الّتي اعتمدت على تقديم دعمٍ حقيقيٍّ للسّائقين؛ بدأت بمساعدتهم في الحصول على رخصة قيادة درّاجةٍ ناريّةٍ، ثمّ تمكينهم من تملّك الدّرّاجة نفسها بعد فترةٍ من العمل المنتظم، لتصبح ملكاً للسّائق في نهاية المطاف.

سهّل هذا النّموذج العمليّ استقطاب سائقين جددٍ ورفع مستوى الاستقرار في الفريق؛ إذ شعر كلّ فردٍ بأنّ المشروع يقدّم له أصلاً حقيقيّاً وفرصةً لتحسين حياته، لا مجرّد وظيفةٍ مؤقّتةٍ أو دخلٍ شهريٍّ.

كذلك، يوضّح هذا المثال أنّ تحفيز الكـوادر في الشّركات النّاشئة السّوريّة اليوم يمكن أن يكون عبر أساليب عمليّةٍ متنوّعةٍ: دعم التّأهيل المهنيّ والتّدريب، مساعدة الموظّفين في الحصول على رخصٍ أو شهاداتٍ لازمةٍ للعمل، وإتاحة فرص تطوّرٍ حقيقيّةٍ داخل المشروع. بهذه الطّريقة، يشعر كلّ فردٍ بقيمةٍ حقيقيّةٍ لدوره ويرتبط أكثر بمستقبل الشّركة—لا من أجل الرّاتب فحسب، بل من أجل فرصةٍ للتّعلّم والنّموّ على المدى الطّويل أيضاً.

ويمتدّ هذا المنطق ليشمل حوافز أخرى مثل منح الموظّفين أسهماً تحفيزيّةً (Employee Stock Options)، بحيث تربط حصّتهم في الشّركة بنموّها المستقبليّ، ممّا يدفعهم للبقاء والمخاطرة مع المشروع.

إلى جانب ذلك، يشدّد مجاهدٌ على أهمّيّة بناء بيئة عملٍ مرنةٍ بالكلّيّة، دوامٍ عن بعدٍ، ساعاتٍ حرّةٍ، وثقافةٍ قائمةٍ على الإنجاز لا على المراقبة. كثيرٌ من الكفاءات اليوم تفضّل الحرّيّة والمرونة مع راتبٍ جيّدٍ على مضاعفة الأجر في بيئةٍ تقليديّةٍ شديدة القيود.

ومن التّجارب المحفّزة أيضاً تنظيم ورش عملٍ تدريبيّةٍ للإدارة، لتعلّم أفضل الممارسات في الاحتفاظ بالمواهب وتبادل الخبرات مع روّاد الشّركات النّاشئة النّاجحة في المنطقة.

وكان لا بدّ لنا أن نختم اللقاء بالسؤال التّالي: بعد سنواتٍ من الغربة وصعوبة الحصول على تأشيرةٍ لحضور تكريمٍ عالميٍّ من ‏Google بسبب جنسيّتك السّوريّة، كيف حوّلت هذه التّجارب القاسية إلى دافعٍ للنّجاح؟ وما النّصيحة الأخيرة الّتي توجّهها للشّباب السّوريّ ليحوّلوا تحدّياتهم إلى فرص؟".

ليجيبنا: كان دافـعاً مهمّاً جدّاً؛ فقد بلغنا قبل سقوط النّظام مرحلةً لم يعد فيها أيّ أملٍ في الرّجوع إلى سوريّا. فلا بديل – لا حلّ – سوى النّجاح. إمّا أن أبقى على هامش الحياة كلاجئٍ، وإمّا أن أسعى لصنع شيءٍ مـتـميّـزٍ أبرز به في المجتمع وأصبح عنصراً فـاعلاً فيه. وهذا ما اخترته، وهو ما أثّر فيّ عميقاً.

نصيحتي للشباب السّوريّ: اجعلوا كلّ عقبةٍ وقوداً يشعل الإرادة، وتمسّكوا بالعمل الدّؤوب حتّى يغدو النّجاح خياركم الوحيد. أمامكم فرصة ذهبيّة، لا تضيّعوها".

آخر تحديث:
تاريخ النشر: