الرئيسية الابتكار هل يمكن لمعادلة منسية أن تعيد تسعير سوق الرياح؟

هل يمكن لمعادلة منسية أن تعيد تسعير سوق الرياح؟

معادلة رياضيّة عمرها 100 عام تُفتح من جديد على يد طالبة هندسة، فتُغيّر تصميم التوربينات وتعيد رسم معادلة الكفاءة

بواسطة فريق عربية.Inc
images header

في وادي السّيلكون، عندما تذكر كلمة "ابتكارٍ"، يتبادر إلى الذّهن ذكاءٌ اصطناعيٌّ، رقمنةٌ، أو تطبيقٌ يقلّب سلوك المستهلك. لكنّ بين سطور معادلةٍ رياضيّةٍ منسيّةٍ وضعت عام 1926، أعادت طالبة دراساتٍ عليا هنديّة تعريف معنى الابتكار الصّناعيّ الحقيقيّ، وفتحت الباب أمام جيلٍ جديدٍ من الشّركات الّتي ستربح ليس لأنّها "تتكلّم عن الاستدامة"، بل لأنّها تحلّ مشكلاتها الأساسيّة. [1]

في عام 1926، كتب العالم البريطانيّ "هرمان غلويرت" معادلةً رياضيّةً هدفها تفسير أقصى حدٍّ من الكفاءة الممكنة لتوربينات الرّياح، تلك الآلات الّتي تحوّل حركة الهواء إلى طاقةٍ كهربائيّةٍ. كانت تلك المعادلة رائدةً في عصرها، وسارت معها الصّناعة لعقودٍ. لكنّ المعادلة لم تكن مكتملةً. لقد تجاهلت، بوعيٍ أو قصور أدواتٍ، عدّة قوًى فيزيائيّةٍ أساسيّةٍ: الدّفع الخلفيّ، وإجهاد الجذر، وانسياب الهواء في الحواف المنحنية من الشّفرات.

ولم يسأل أحدٌ لقرنٍ من الزّمن: "هل ما زالت هذه المعادلة تصلح لما نبنيه اليوم؟" حتّى ظهرت "دفيا تيّاجي" (Divya Tyagi)، طالبة الدّراسات العليا في جامعة "بنسلفانيا" (Penn State)، لتعيد طرح هذا السّؤال. [5]

لكنّها لم تكتف بالسّؤال.

عقولٌ شابّةٌ، ومعادلاتٌ قديمةٌ... وسؤالٌ واحدٌ يفتح الباب

كانت تيّاجي، ذات الأعوام العشرين، تعمل على أطروحة ماجستيرٍ في مجال الدّيناميكا الهوائيّة لتوربينات الرّياح. وبينما كانت تغوص في النّماذج الرّياضيّة الكلاسيكيّة الّتي يعتمدها قطاع الصّناعة حتّى اليوم، لاحظت أنّ هناك فجوةً في قلب النّموذج: لا تأخذ معادلة غلويرت الأصلية في الاعتبار التّأثير الحقيقيّ للقوى الثّانويّة الّتي تؤثّر على الشّفرات أثناء الدّوران.

قادتها هذه الملاحظة إلى إعادة النّظر في بنية النّموذج كلّه، مستعينةً بأداةٍ رياضيّةٍ تعرف باسم "حساب التّغييرات" (Calculus of Variations)، وهي تقنيةٌ متقدّمةٌ تستخدم لتحليل الأنظمة الّتي تتغيّر باستمرارٍ، وتستخدم عادةً في ميكانيكا الطّيران أو في الفيزياء النّظريّة. [3]

لكنّ هذه المرّة، لم تكن الحسابات مخصّصةً لمعالجة سلوك جزيئيّاتٍ أو مسارات صواريخٍ. بل كانت موجّهةً نحو هدفٍ بسيطٍ ومباشرٍ: تحسين كفاءة الشّفرة الهوائيّة الّتي تدور في الهواء لتنتج طاقةً.

النّتيجة؟ إعادة تعريفٍ للمنطق البنيويّ الّذي صمّمت عليه التّوربينات الحديثة

من خلال إعادة تضمين القوى الّتي أغفلت سابقاً، استطاعت تيّاجي صياغة نموذجٍ جديدٍ أكثر دقّةً، يراعي شكل الشّفرة، واتّجاه انحنائها، وتوزيع القوى على طول سطحها. وهذا ليس تحسيناً "نظريّاً" فحسب. بل إنّ النّتائج الأوّليّة أظهرت أنّ التّصميم الجديد، المستند إلى المعادلة المحدّثة، يمكن أن يرفع كفاءة التّوربينات بنسبةٍ تصل إلى 12%، دون تغيير الموادّ المستخدمة، ودون زيادةٍ في الحجم، بل فقط من خلال تحسين الشّكل والزّوايا والانسيابيّة. [2]

وهنا تظهر القيمة الحقيقيّة: في صناعة الطّاقة، أيّ تحسّنٍ بنسبة 1% في كفاءة تحويل الرّياح إلى كهرباء يعني عشرات الملايين من الدّولارات سنويّاً للشّركات الكبرى. فما بالك بتحسينٍ يصل إلى 12%؟

هذه ليست ورقةً بحثيّةً… بل رخصةً لتغيير قواعد السّوق

لنفكّر بالأمر بلغة السّوق لا المختبر؛ لا يعني التّحسين الّذي قادته تيّاجي مجرّد "تقدّمٍ نظريٍّ" يكتب في مجلّةٍ علميّةٍ، بل هو رافعةٌ اقتصاديّةٌ كاملةٌ. فالعديد من شركات تصنيع التّوربينات، من أوروبّا إلى الصّين، تعمل وفق نماذجٍ هندسيّةٍ معمّمةٍ، تحاكي حركة الهواء بناءً على معادلاتٍ وضعت منذ عقودٍ. وقد بنيت خطوط إنتاجها بالكامل على تلك النّماذج.

ما فعلته تيّاجي هو أنّها زوّدت هذه الصّناعة بأداةٍ جديدةٍ: معادلةٌ أكثر دقّةً، تنتج تصميماً أكثر فاعليّةً، بتكلفة تصنيعٍ أقلّ.

وفي ظلّ تسارع التّحوّل العالميّ نحو الطّاقة النّظيفة، ومع صعود أسواقٍ ناشئةٍ تعتمد اعتماداً مباشراً على الرّياح كمصدرٍ مستقبليٍّ للطّاقة، من المغرب ومصر، إلى الهند والبرازيل، فإنّ أيّ تحسينٍ بنيويٍّ في التّصميم يصبح فرصةً لإعادة تسعير المشروع كاملاً.

والأهمّ؟ أنّ هذا النّوع من التّغيير لا يحتاج إلى استثمارٍ رأسماليٍّ هائلٍ. بل إلى تبنٍّ رياضيٍّ دقيقٍ، ورغبةٍ في التّخلّي عن الافتراضات القديمة.

ثلاث فرصٍ استثماريّةٍ تولّدت من هذه المعادلة

تعديلٌ رياضيٌّ بسيطٌ، في الظّاهر، يمكن أن ينتج ثلاث مساراتٍ ربحيّةٍ جديدةٍ، لكلّ واحدٍ منها طبيعة استثمارٍ مختلفةٍ:

  1. شركاتٌ ناشئةٌ في تصميم الشّفرات المخصّصة
    يمكن لشركةٍ ناشئةٍ أن تبنى بالكامل على تقديم خدمةٍ: "تصميم شفرات توربينٍ حسب نموذج تيّاجي"، وتوفير مخطّطات تصنيعٍ ثلاثيّة الأبعاد بناءً على معايير كلّ موقعٍ جغرافيٍّ وسرعة رياحٍ. هنا، لا تبيع الشّركة أجهزةً، بل تبيع "المنطق الرّياضيّ المحسّن".

  2. تراخيصٌ لشركات التّصنيع الكبرى
    بدلاً من بناء مصنعٍ جديدٍ، يمكن تحويل النّموذج الرّياضيّ إلى براءة اختراعٍ مسجّلةٍ ترخّص لشركاتٍ قائمةٍ في الصّين، والدّانمارك، والولايات المتّحدة. كلّ شركةٍ تعدّل تصميمها بناءً على هذه المعادلة، تدفع رسوماً سنويّةً. وهكذا تحوّل فكرةٌ أكاديميّةٌ إلى أصلٍ تجاريٍّ طويل الأمد.

  3. أدواتٌ برمجيّةٌ لمحاكاة الأداء الهندسيّ
    فرصةٌ ثالثةٌ تكمن في تطوير برامج محاكاةٍ (simulation tools) تدمج فيها المعادلة الجديدة، وتباع لمكاتب التّصميم الهندسيّ أو لجامعاتٍ تدرّس هندسة الطّاقة المتجدّدة. لا يحتاج البرنامج تصنيعاً أو لوجستيّاتٍ، فقط واجهةٌ بصريّةٌ وتكاملٌ مع أدوات CAD.

وماذا الّذي يهمّنا كروّاد أعمالٍ؟ هذا هو جوهر القصّة

القصّة هنا ليست فقط عن دفيا تيّاجي، بل عن المنهج الّذي مثّلته:

  • أنّ الابتكار لا يشترط أن يكون تقنيّاً عالي الصّوت.
  • أحياناً، تكون أقوى الانقلابات الهادئة في سطرٍ واحدٍ من معادلةٍ.
  • أنّ إعادة النّظر في "النّموذج المستعمل" أهمّ أحياناً من اختراع شيءٍ جديدٍ تماماً.
  • أنّ المهارة الرّياضيّة، حين توضع في خدمة الصّناعة، تنتج قيمةً قابلةً للقياس، والاستثمار، والتّوسّع.

أبعد من الشّفرات: تغييرٌ في ثقافة الابتكار الصّناعيّ

من السّهل أن تلهمنا التّقنيّة الاستهلاكيّة عن مساحاتٍ أعمق من الابتكار الحقيقيّ. لكنّ إنجاز دفيا تيّاجي يلفت الانتباه إلى نوعٍ مختلفٍ من الرّيادة: الرّيادة الّتي لا تبني منتجاً فقط، بل تعيد بناء الفرضيّة الّتي يقوم عليها المنتج.

ما فعلته تيّاجي ليس "حيلةً رياضيّةً" داخل معملٍ جامعيٍّ، بل تحوّلٌ في أسلوب التّفكير الهندسيّ. هذا النّوع من التّحوّل لا يحدث غالباً في عناوين الأخبار، لكنّه يؤسّس لموجةٍ ثانيةٍ من الابتكار، أبطأ، نعم، لكنّه أكثر رسوخاً.

لقد تحوّلت المعادلة الّتي كانت تدرّس في كتب الهندسة منذ قرنٍ إلى نقطة بدء لأسئلةٍ جديدةٍ:

  • ماذا لو كانت النّماذج الكلاسيكيّة الأخرى في القطاعات الصّناعيّة الكبرى بحاجةٍ إلى إعادة فحصٍ؟
  • ماذا لو كان داخل كلّ معادلةٍ "منتهيةٍ" فرصةٌ خفيّةٌ لم تكتشف بعد؟
  • وماذا لو كانت أقوى الشّركات القادمة، ليس تلك الّتي تمتلك التّقنيّة، بل تلك الّتي تفهم الفيزياء من جديدٍ؟

ملاحظاتٌ للمستثمرين والجامعات وصنّاع القرار

في سياقٍ تتسابق فيه الجامعات لدعم مشاريع الذّكاء الاصطناعيّ، والأتمتة، والحوسبة الكمّيّة، يثبت هذا النّموذج أنّ الاستثمار في الرّياضيات التّطبيقيّة، وإن بدا أبطأ أو أكثر تخصّصاً، قد ينتج أثراً صناعيّاً أكبر بكثيرٍ من تطبيقٍ استهلاكيٍّ جديدٍ. [4]

ما نحتاجه ليس فقط مسرّعاتٍ للشّركات النّاشئة، بل مسرّعاتٍ للنّماذج الرّياضيّة المعطّلة. ليكن في كلّ جامعةٍ، وكلّ حاضنة أعمالٍ، خطّ تمويلٍ مخصّصٍ: "أعد النّظر في نموذجٍ قديمٍ… وربّما تغيّر الصّناعة من الأساس".

وللمستثمرين، فإنّ الفرص لا تتكرّر كثيراً حين تكون بهذا الوضوح: شركةٌ واحدةٌ تتبنّى النّموذج الّذي طوّرته تيّاجي، وتحوّله إلى منتجٍ أو خدمةٍ قابلةٍ للتّطبيق، قادرةٍ على تحصيل تراخيصٍ، أو بيع أدواتٍ، أو توقيع شراكات تصنيعٍ، ستملك ميزةً غير قابلةٍ للتّقليد بسرعةٍ.

ربّما لم تكن تيّاجي تسعى إلى إحداث "ثورةٍ" حين جلست تعيد استخلاق المعادلة على الورق. وربّما لم يخطر ببالها أنّ ملاحظاتها الرّياضيّة ستصل إلى دوائر الصّناعة الكبرى.

لكنّ ما فعلته يضعها في مصافّ أولئك الّذين لا يكتفون باختراع المستقبل، بل يبدؤونه من داخل الماضي أنفسه. نحن لا نحتاج دوماً إلى المزيد من الأفكار. أحياناً، نحتاج فقط إلى الجرأة على مساءلة الأفكار الّتي ظننّاها محسومةً.

آخر تحديث:
تاريخ النشر: