عُمر سمرة: من عبور المحيط إلى عبور الأزمات الريادية
عندما التقت روح المغامرة بريادة الأعمال، صاغت في عمر سمرة نموذجاً نادراً من التّجلّي. هذه قصّته: درسٌ في الصمود.

ليس من الغريب أن يُعرف عمر سمرة أوّلاً بكونه أوّل مصريٍّ يعتلي "القمم السّبع"، ولا أن يُخلّد اسمه بمغامرته الشّاقّة في عبور المحيط الأطلسيّ ضمن تحدّي "الأطلسيّ" (Atlantic Challenge): أربعون يوماً من التّجديف، على امتداد 3000 ميلٍ بحريٍّ، تبدأ من "لا غوميرا" في جزر الكناري وتنتهي في "أنتيغوا" الكاريبيّة. ولكن، ما قلّ أن يروى، هو كيف أسّست تلك التّجارب العنيفة لرائد أعمالٍ صاغته المحن أكثر ممّا صاغته الخطط.
في تلك الرّحلة الّتي وثّقها الفيلم الوثائقيّ "ما وراء البحر الهائج" (Beyond The Raging Sea)، وجد سمرة نفسه في عام 2017، مع زميله عمر نور، تائهين اثنتي عشرة ساعةً في وسط البحر، لا يحتميان سوى بطوفٍ هشٍّ، قبل أن تنتشلهما سفينة شحنٍ يونانيّةٌ.
ولكنّ الأهمّ من تلك السّاعات، كما يقول، كان ما سبقها وما تلاها. "العقليّة الّتي كوّنتها كمغامرٍ، على مدى سنواتٍ، كانت السّبب في قدرتي لاحقاً على تحمّل تحدّيات ريادة الأعمال"، يقول سمرة، مشيراً إلى تجربته في تأسيس شركة "وايلد غوانابانا" (Wild Guanabana) المتخصّصة في رحلات السّفر المغامر.
غير أنّ ما شكّل منعطفاً في حياته، لم يكن النّجاة فحسب، بل لحظات الصّفاء الّتي تجلّت في وسط الفوضى. " تنطلق ريادة الأعمال الّتي تُحرّكها ثقافة الاندفاع المستمرّ، دون أن تدرك حجم التّكاليف النّفسيّة والإنسانيّة الّتي تدفعها أو تدفعها عائلتك"، يروي سمرة. "تبدأ مشروعاً لهدفٍ واضحٍ، ثمّ تستيقظ يوماً لتدرك أنّك تلاحق أشياء لا تمتّ لذلك الهدف بصلةٍ".
ولهذا، يرى أنّ ما يبدو في ظاهره محنةً، قد يكون في جوهره فرصةً لإعادة الاكتشاف. "كان عبور المحيط خطراً كبيراً، ولكنّ حياتي تغيّرت بعده. تدفعك كلّ تجربةٍ بهذا الحجم للتّأمّل: هل ما تفعله اليوم لا يزال يعكس من تكون؟ وما تطمح إليه؟".
يُكمل قائلاً: "اكتشفت أنّ حياتي كانت مكتظّةً. لا بالأشياء فحسب، بل بالأفكار. كنّا نقدّم الكثير من الخدمات والمنتجات، ولكنّ ذلك كان يأتي على حساب صحّتي الجسديّة وذهني، وعلى حساب هويّة الشّركة نفسها. وكان لا بدّ من وقفةٍ، من إزالة هذا التّراكم، وإعادة التّوجيه نحو ما يصنع فرقاً حقيقيّاً، نحو القيمة، نحو الأثر، نحو أن تبقى الشّركة علامةً يتذكّرها النّاس لما تمنحه من معنىً".
أسّس عُمر سمرة شركة "وايلد الغوانابانا" عام 2009، بعد أن اختار عن قناعةٍ أن يُغادر مساراً مهنيًّا ناجحاً في عالم "المصرفيّة الاستثماريّة" و"الملكيّة الخاصّة"؛ مساراً يصفه بأنّه مُثمرٌ من الخارج، لكنّه فارغٌ من المعنى. لم تكن غايته إطلاق شركة سفرٍ تقليديّة، بل كان يسعى، كما يقول، إلى إصلاح العلاقة المنسيّة بين الإنسان والطّبيعة، على أمل أن يقوده ذلك إلى إصلاح العلاقة الأعمق: علاقة الإنسان بنفسه.
ولكن، في عام 2020، عندما ضربت جائحة "كوفيد، 19"، تعرّضت "وايلد الغوانابانا" لخسارةٍ فادحةٍ، وفقدت نحو90% من إيراداتها، وهنا تجلّت دروس المحيط، وأثبت سمرة أنّ الصّمود ليس مجرّد قدرةٍ بل نهجٌ.
يقول: "في تلك المرحلة، صقلتُ كثيراً من مهارات البقاء. وأظنُّ أنّ عقليّة المُغامر كانت فارقةً، إذ مررنا بلحظاتٍ عصيبةٍ، كنّا فيها على الحافّة". ويُتابع: "تعلّمتُ أن أُجاور الضّباب، وأن أُصادق الغموض".
وبفضل ما جمعه من حنكة المغامر، ومراوغة الرّائد، تمكّن سمرة من العبور بنفسه وبشركته من تلك المحنة. لا بل ودفعته الظّروف إلى ابتكار مصادر دخلٍ جديدةٍ للشّركة، وتطوير أنشطةٍ تجاريّةٍ جديدةٍ كلّيّاً، تلبّي في جوهرها نفس الهدف: تقديم منتجاتٍ وخدماتٍ سياحيّةٍ مسؤولةٍ وصديقةٍ للبيئة، تمكّن المسافرين في المنطقة من استكشاف أراضٍ جديدةٍ، والاقتراب من الطّبيعة.
اليوم، يقسّم سمرة وقته بين إدارة شركاته وعلاماته التّجاريّة المختلفة، وهي تقدم مجموعةً متنوّعةً من الخدمات، تشمل تصميم رحلاتٍ مخصّصةٍ للمغامرة، وتخطيط مساراتٍ للتّجوال والرّكوب والتّسلّق، لجهاتٍ كبيرةٍ كمشروع "البحر الأحمر العالميّ" ومنطقة العلا. كما يقود مشاريع في الضّيافة والتّخييم الرّاقي، ويبني في الآونة الأخيرة أوّل نزلٍ إيكولوجيٍّ ومركز حفاظٍ بيئيٍّ على ساحل البحر الأحمر.
وذلك غير ما يخصّ مشاريعه الشّخصيّة، الّتي تشمل كتاباً مقبلاً، وسلسلةً وثائقيّةً، ومحاضراتٍ تحفيزيّةً يقدّمها في مختلف أنحاء العالم.
ومع كلّ تحوّلٍ، وكلّ تكيّفٍ، وكلّ خيارٍ اضطرّ إليه خلال مسيرته، يؤمن سمرة أنّه راهن على الحصان الرّابح. يقول: "أعتقد أنّ السّياحة الجماعيّة المشهورة قد ماتت، وإن لم تكن قد ماتت فعليها أن تموت". ويضيف: "أظنّ أنّ الدّول الّتي أدركت هذا التّحوّل وتكيّفت معه، هي الّتي تحقّق نتائج أفضل"، ويشير في ذلك إلى "المملكة العربيّة السّعوديّة"، الّتي سارعت إلى تبنّي السّياحة المغامرة في وقتٍ تفتح فيه أبوابها للزّوّار من مختلف أنحاء العالم.
وعلى الرّغم من أنّ السّياحة المغامرة قد لا تحظى بنفس الحضور في المنطقة كما في، مثلاً، "شمال أمريكا"، إلّا أنّ سمرة يرى أنّ هناك تغيّراً جذريّاً في النّظرة إليها. يوضّح قائلاً: "عندما بدأنا، كانت هناك كثيرٌ من المفاهيم الخاطئة حول السّفر المغامر. كان النّاس يرون أنّ المشي في الجبال، أو في الطّبيعة، هو أمرٌ تفعله إذا كنت ذا دخلٍ محدودٍ". لكنّهم، مع الوقت، بدؤوا يدركون أنّه، في العالم، هناك كثيرون يسافرون بطريقةٍ فاخرةٍ، وفي الوقت ذاته يخوضون رحلاتٍ مغامرةٍ، ويكونون على استعدادٍ لتقبّل قسوتها، لأنّ غنى التّجربة في ذاته يصبح هو الفخامة.
"ففي حياةٍ محميّةٍ تكفل لك كلّ شيءٍ، وكلّ خدمةٍ تقدّم إليك بنقرة هاتفٍ، يصبح الخروج إلى عالمٍ تتّصل فيه بالآخرين بشكلٍ حقيقيٍّ، بالإصغاء النّشط، أو حتّى بالمشي وحيداً وأنت محاطٌ بصمت الطّبيعة، ولا يفصلك عن نفسك سوى صوت أنفاسك وخطواتك، هذه هي الرّفاهية الحقيقيّة". ويختم قائلاً: "الرّفاهية، أن تستطيع الانسلاخ من كلّ شيءٍ، وتجربة عالمٍ جديرٍ بالاكتشاف".
وبما أنّه قد مهّد طريقه بهذه المبادرات التّجاريّة المبتكرة، فإنّ عمر سمرة يحمل معه كنزاً من الدّروس، يمكن لكلّ رائد أعمالٍ أن يستوعب قيمته.
ففي المشهد الّذي تبدو فيه الشّركات النّاشئة أكثر انشغالاً بمطاردة التّمويل من تطوير المنتجات أو الخدمات، يشدّد سمرة على ألّا يسعى الرّياديّون إلى جمع الأموال إلّا إذا كانوا في حاجةٍ حقيقيّةٍ إليها. يقول: "يجب أن تقرّ وتفهم أنّ كلّ ما تجمعه من مالٍ، يأتي على حساب السّيطرة. يتعامل النّاس مع جمع الأموال كأنّه إنجازٌ. ولكن في واقع الأمر، عليك أن تحقّق الوعود الّتي قدّمتها، وكم من المال جُمع للأسباب الخاطئة! يجب أن نعود إلى الأسس، كلّ نسبةٍ تتنازل عنها في شركتك، مهما كانت صغيرةً، هي أمرٌ جللٌ".
كما يؤكّد سمرة أنّه لا ينبغي للرّياديّ أن يخوض الرّحلة وحده. "وجود شريكٍ مؤسّسٍ أمرٌ مهمٌّ جدّاً، لأنّ ريادة الأعمال صعبةٌ بشكلٍ لا يصدّق"، يشير. "هي حالةٌ دائمةٌ من الاستنفار، في بيئةٍ عالية التّوتّر. ولذلك، ولهذا، فإنّ الاحتضان المبكّر لفريقٍ يؤمن برؤيتك، ويكمل ما تنقصه، هو مفتاح الثّقة والثّبات".
ويختم سمرة نصائحه للرّياديّين بقاعدةٍ بدا أنّه تعلّمها ببطءٍ، ودفع ثمنها غالياً: "استأجر الأفضل، مهما كلّفك الأمر". يقول: "استغرقني الأمر وقتاً طويلاً لأدرك هذه القاعدة، وأظنّني دفعت ثمنها مراراً. لسنواتٍ، ظلّ تفكيري محكوماً بعقليّةٍ تقليديّةٍ تُقيّد رؤيتي؛ فحين كانت الميزانية تسمح بتوظيف شخصٍ واحدٍ متميّزٍ، كنت أفضّل تقسيمها على شخصين أقلّ كفاءة، وأُخصّص الباقي للتّسويق".
"ومع مرور الوقت، أدركتُ أنّ أصدق استثمارٍ تُودعُهُ إنّما يكونُ في النّفوس الكفوءة، لا في الإعلانات ولا في الزّخارف الجانبيّة. ليس عليك أن تكون أذكى من في الغرفة، بل الأجدر أن تُحيط نفسك بمن يتفوّقون عليك، لتُفرغ عقلك لما هو أوسع: التّخطيط، والنّمو، وصناعة الرّؤية. في البدايات، حين تضطرّ لتمويل ذاتك، قد تُساوم على كلّ شيء، إلّا أنّك ستتعلّم، عاجلاً أو آجلاً، أنّ الإنسان ليس موضع التّوفير، بل هو الأساسُ الذي عليه يُبنى كلُّ شيء".