الأمن السيبراني 2025: حرب صامتة تشكّل مستقبل العالم الرقمي
حين تَمسّ الهجمات السيبرانية حياتنا الشّخصيّة والاقتصاديّة، يصبح الأمن الرّقميّ ليس خياراً بل ضرورة لحماية الأفراد والشّركات والدّول من الخسائر والتّدمير

هذا المقال متوفّرٌ باللّغة الإنجليزيّة من هنا.
يعمل العالم اليوم بقوّةٍ على الشّفرات البرمجية. تمتدُّ خيوطها من الهاتف في جيبك إلى الطّائرة في السّماء، فتتشابك الأشياء كلُّها ويغدو كلُّ شيءٍ معرّضاً للهشّاشة في الوقت نفسه.
انتقل الأمن السيبراني من زاويةٍ جانبيّةٍ هادئةٍ في ميدان تكنولوجيا المعلومات (Information Technology – IT) إلى صفوف المواجهة الأولى في ساحة الأعمال العالميّة والجغرافيا السّياسيّة. وما كان يوماً مجرّد إزعاجٍ عابرٍ بفعل فيروسات الحواسيب ورسائل البريد العشوائيّ تحوّل إلى سوقٍ سوداء تُقدّر قيمتها بتريليونات الدّولارات، حيث تتحكّم جماعات الجريمة المنظمة وفرق القرصنة المأجورة بل وحتّى الهجمات المدعومة من الدّول في مفاتيح أنظمتنا الأشدّ حساسيّةً.
بلغت الرّهانات ذروتها. بالنسبة إلى الأفراد، تكفي كلمة سرٍّ مسروقٌة واحدةٌ لتمحو مدّخرات العمر كلَّها. وبالنّسبة إلى الشّركات، يستطيع هجوم فديةٍ واحدٌ أن يشلّ نشاطها في ليلةٍ واحدةٍ، فيطيح بملايين الدّولارات من ميزانيّاتها ويقوّض الثّقة في علاقاتها مع عملائها. أمّا الحكومات، فيمكن لهجومٍ سيبرانيٍّ منسّقٍ أن يشلّ المستشفيات، ويعطّل إمدادات الطّاقة، ويزعزع الأمن الوطنيّ.
تلك هي حقيقة عام 2025 الجديدة: لم يعد الأمن السيبراني وظيفةً تقنيّةً عابرةً في مجال تكنولوجيا المعلومات، بل غدا إستراتيجيّة بقاءٍ.
حين تمسّ الهجمات حياتك الشّخصيّة
يبقى الأمن السيبراني عند كثيرٍ من النّاس فكرةً بعيدةً مجرّدةً، حتّى تأتي اللّحظة الّتي تصبح فيها الهجمات واقعاً صادماً يغيّر حياتهم تماماً، إذ يستيقظ ضحايا سرقة الهويّة ليجدوا حساباتهم البنكيّة قد أُفرغت بالكامل، ويواجه الشّاب المهنيّ صدمة ابتزاز صوره الشّخصيّة التي سُرقت واستُخدمت ضدّه. هذه الهجمات لا تُقاس بالخسائر الماليّة وحدها، بل تترك أثراً نفسيّاً عميقاً يثقل كاهل الضّحايا ويحوّل مسار حياتهم إلى تجربةٍ من الألم والقلق المستمرّ.
في أوروبا العام الماضي، نجحت حملة تصيّدٍ منسّقةٌ في استدراج آلاف المواطنين الغافلين للكشف عن بياناتهم البنكيّة عبر الإنترنت. كثيرون وقفوا عاجزين يشاهدون حساباتهم تُفرَّغ في غضون ساعاتٍ. في تلك اللّحظة لم يعُد الأمن السيبراني شعاراً أو كلمةً رنّانةً، بل انكشف كحاجزٍ سقط وفشل في حماية أرزاقهم.
الشّركات في مرمى النّيران
لم يَعُد أيّ قطّاعٍ في مأمنٍ من الخطر نفسه؛ فالشّركات، مهما صَغُرَ حجمُها أو بدا نشاطها محليّاً أو هامشيّاً، لم تَعُد بمنأى عن الاستهداف. على سبيل المثال، شكّل هجومُ "كولونيال بايبلاين" (Colonial Pipeline) على الولايات المتّحدة عام 2021 -الذي أوقف إمدادات الوقود إلى السّاحل الشّرقيّ- صرخة إنذارٍ مدوّيةً؛ فإذا كان بوسع عصابة فديةٍ واحدةٍ أن تُحدِثَ هذا القدر من الشّلل، فما الّذي ينتظرُ شركاتٍ لا تمتلك موارد كافيةً ولا استعداداً ملائماً؟
النّتائج مدمّرةٌ بكلّ المقاييس؛ فالخسائر الماليّة المباشرة تتراكم بملايين الدّولارات، بينما تتوقّف الإنتاجيّة بالكامل نتيجة تجمّد الأنظمة. ومع تسرّب بيانات العملاء تنهار السّمعة بسرعةٍ، ويجد أصحاب الشّركات أنفسهم تحت رقابة الهيئات التّنظيميّة الصّارمة؛ فقد دفعت شركاتٌ في أوروبا وكاليفورنيا غراماتٍ باهظةً بموجب اللّائحة العامّة لحماية البيانات (General Data Protection Regulation – GDPR) وقانون خصوصيّة المستهلك في كاليفورنيا (California Consumer Privacy Act – CCPA) نتيجة فشلها في حماية معلومات عملائها، ما يضاعف الضّغط الماليّ والقانونيّ عليها.
أمّا الشّركات الصّغيرة والمتوسّطة، ولا سيما في الأسواق النّاشئة، فهي الأكثر هشاشةً أمام الهجمات السّيبرانيّة. يظنّ كثيرون أنّ مجرمي الإنترنت سيتجاهلونها، لكن الواقع يثبت العكس تماماً؛ إذ يراها المهاجمون فريسةً سهلةً، وغالباً ما يستخدمونها كبوّابةٍ لاختراق سلاسل الإمداد الأكبر، ما يجعل ضعفها نقطة انطلاقٍ لهجماتٍ أوسع وأكثر ضرراً.
الحكومات على خطّ النّار
لم تعد المؤسّسات التّجاريّة وحدها في مرمى الهجمات السّيبرانيّة، فالحكومات أيضاً تواجه موجاتٍ متصاعدةً من الضّربات الرّقميّة. ففي عام 2017، أصاب هجوم "وانا كراي" (WannaCry) منظومة "الخدمة الصّحيّة الوطنيّة" (National Health Service – NHS) في المملكة المتّحدة بالشّلّل، واضطرّت المستشفيات إلى إلغاء العمليّات الجراحيّة، ما وضع حياة الكثيرين في خطرٍ مباشرٍ. وكان ذلك مجرّد الشّرارة الأولى لموجةٍ من الهجمات الّتي استهدفت البنى التّحتيّة الحيويّة حول العالم.
اليوم، أصبحت الهجمات على البنى التّحتيّة الحيويّة -من شبكات الكهرباء إلى المطارات وأنظمة المياه- شبهَ روتينٍ يوميٍّ. وفي كثيرٍ من الحالات، لا يقف وراءها مجرمون مجهولو الهويّة، بل قراصنة مدعومون من دولٍ، يستخدمون الحرب السّيبرانيّة كامتدادٍ لسياساتهم الخارجيّة. وهنا تتقاطع الأهداف الاستراتيجيّة مع الغايات الجيوسياسيّة، ويُقاس الضّرر ليس بالدّولارات فحسب، بل بمدى تأثيره على الأمن الوطنيّ نفسه.
القطاعات الأشدُّ تعرّضاً للخطر
لا تتساوى القطّاعات في مواجهة المخاطر السّيبرانيّة. يحتلّ قطّاع الرعاية الصحية صدارة الاستهداف، إذ تُعّد ملفات المرضى كنزاً ثميناً في السّوق السّوداء الرّقميّة، وأي توقّفٍ في المستشفيات قد يهدّد الأرواح مباشرةً. أمّا القطّاع الماليّ، فهو ساحة معركةٍ مستمرّةٌ، يواصل المهاجمون فيها البحث عن ثغرات المصارف وأنظمة الدّفع ومنصّات التّكنولوجيا الماليّة بلا هوادةٍ.
وتبقى قطّاعات الطّاقة والمرافق في مرمى النّيران، خصوصاً في مناطق مثل الشّرق الأوسط، حيث تمثّل بنى النّفط والغاز ثروةً هائلةً وحساسيّةً سياسيّةً بالغةً. بينما تتعرّض شركات التّجزئة والتّجارة الإلكترونيّة لوابل من محاولات سرقة بيانات الدّفع الخاصّة بعملائها. وتستمرّ الحكومات، ولا سيما في الدّيمقراطيّات الّتي تتحوّل فيها المعلومات إلى سلاحٍ، في صدّ حملات التّجسّس السّيبرانيّ المعقّدة والممنهجة.
الخريطة العالميّة للضّحايا
لا تعترف الجريمة السّيبرانيّة بالحدود، لكن بعض الدّول تتحمّل العبء الأكبر لهذه الهجمات. ولكن بشكلٍ عامٍّ، تظلّ الولايات المتحدة الاقتصاد الأكثر استهدافاً في العالم، حيث أفاد مكتب التّحقيقات الفيدراليّ (Federal Bureau of Investigation – FBI) بأنّ الضّحايا الأمريكيّين خسروا أكثر من 12.5 مليار دولارٍ نتيجة الجرائم السّيبرانيّة في عام 2023 وحده. أمّا الهند، باقتصادها الرّقميّ سريع النّموّ، فقد تحوّلت إلى هدفٍ مغرٍ للاحتيال، بينما تكافح البرازيل موجةً متصاعدةً من الاحتيالات البنكيّة عبر الإنترنت. وتبقى ألمانيا والمملكة المتّحدة، بصناعاتهما المتطوّرة، أهدافاً دائمةً لهذه الهجمات.
وفي الشّرق الأوسط، تواجه عمالقة الطّاقة في المملكة العربيّة السّعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة وقطر تهديداتٍ مستمرّةً. ولا تقتصر الهجمات على المال فحسب، بل تمتدّ لتطال النّفوذ والسّيطرة في منطقةٍ تشكّل محوراً حيويّاً للاقتصاد العالميّ.
مصادر الهجمات السّيبرانيّة
قد يكون تتبّع جذور الهجمات السّيبرانيّة أمراً معقّداً، لكن تظهر اتّجاهاتٌ محددةٌ ودوريّةٌ في مصادرها وأساليبها؛ فروسيا وشرق أوروبا تعدّ موطناً لبعض أخطر جماعات الفديّة في العالم، فيما تُتهم الصين بالتّجسس المدعوم من الدولة، مستهدفة الملكية الفكرية وبيانات الحكومات الحسّاسة. أمّا كوريا الشّمالية، فتموّل جزءاً كبيراً من اقتصادها المقيّد بالعقوبات من خلال سرقاتٍ سيبرانيّةٍ، خصوصاً في مجال العملات الرّقميّة.
وفي غرب أفريقيا، تنتشر هجمات الهندسة الاجتماعيّة والتّصيّد الاحتيالي، وتبرز نيجيريا في مركز العديد من هذه العمليّات. غير أنّ الخطر أحياناً يكون أقرب إلى الدّاخل، حيث تشكّل التّهديدات الصّادرة عن موظفين أو متعاقدين لديهم وصولٌ إلى أنظمةٍ حسّاسةٍ نسبةً كبيرةً من الاختراقات.
ولا يمكن حصر الهجمات السّيبرانيّة في شكلٍ واحدٍ؛ فهي منظومةٌ متكاملةٌ. فهناك عصابات الجريمة المنظّمة الّتي تقدّم الفدية كخدمةٍ، مزوّدةً بدعمٍ للعملاء وبوّابات دفعٍ جاهزةٍ، بينما يشنّ قراصنةٌ مدعومون من دولٍ حملات تجسّسٍ رقميٍّ واسعةً. كما ينفّذ النّشطاء السّيبرانيون هجماتٍ بدوافع سياسيّةً، ويقوم الموظّفون المستاؤون بتسريب البيانات أو تخريبها، في حين يختبر المبتدئون، المعروفون باسم “script kiddies”، البرمجيات الخبيثة الجاهزة دون خبرةٍ احترافيّةٍ.
الشّركات التي تواجه العاصفة
إذا كانت الجريمة السيبرانيّة قطّاعاً قائماً، فإنّ الأمن السيبراني قطّاعٌ مماثلٌ، متساوٍ في الاحترافيّة والتّحدّي. وبينما يتحرّك المهاجمون بخفّةٍ ومرونةٍ، يقف المدافعون صامدين بقوّةٍ لا يُستهان بها. اليوم، تشكّل شبكةٌ عالميّةٌ من شركات الأمن السيبراني الصّفوف الأماميّة لهذه الحرب الرّقميّة، حاميةً للبنى التّحتيّة الحيويّة والمؤسّسات الكبرى.
أثارت شركة "كراودسترايك" (CrowdStrike) ضجّةً عالميّةً حين كشفت التّدخّل الرّوسيّ في انتخابات الولايات المتّحدة عام 2016، وأصبح نظامها "فالكون" (Falcon) معياراً عالميّاً لحماية الأجهزة الطّرفيّة. وتهيمن "بالو ألتو نيتوركس" (Palo Alto Networks) على سوق الجدران النّارية وأمن السّحابة، مزوّدةً الشّركات بدفاعاتٍ متطوّرةٍ قائمةٍ على الذكاء الاصطناعي. كما توفّر "فورتي نت" (Fortinet) حماية للبنى التّحتيّة الحيويّة حول العالم عبر جدرانها النّاريّة "فورتي غيت" (FortiGate)، بينما بنت "تشِك بوينت سوفتوير" (Check Point Software) سمعةً رصينةً في حماية الحكومات والشّركات في أكثر من 80 دولةً.
استفادت شركة "سيسكو سيكيوريتي" (Cisco Security) من هيمنتها في مجال الشّبكات لدمج حلول الثّقة الصّفريّة ضمن منتجاتها، مانحةً الشّركات أدوات حمايةٍ متقدّمةً. وعلى الرّغم من الجدل المحيط بها، تظلّ "كاسبرسكي لاب" (Kaspersky Lab) مرجعاً موثوقاً في كشف البرمجيّات الخبيثة المعقّدة، مثل "ستكسنت" (Stuxnet). ولعبت "فاير آي" (FireEye)، الّتي أصبحت اليوم "تريليكس" (Trellix)، دوراً محوريّاً في التّحقيق بهجوم "سولار ويندز" المدمّر. كما برزت "دارك تريس" (Darktrace) كرائدةٍ في توظيف الذكاء الاصطناعي لرصد الشّذوذ قبل تفاقمه، بينما تواصل "سيمانتيك"، الّتي تحوّلت إلى "نورتون لايف لوك" (NortonLifeLock)، حماية ملايين المستخدمين والشّركات حول العالم.
وفي أفقٍ آخر، تتقدّم "غروب آي بي" (Group-IB)، مقرّها في سنغافورة وتمتدّ عمليّاتها عالميّاً، كحليفٍ استراتيجيٍّ في مكافحة الجرائم الرّقمية. متخصّصةً في استخبارات التّهديدات ومنع الاحتيال، تعاونت عن كثبٍ مع "الإنتربول" (Interpol) و"اليوروبول" (Europol) لتفكيك بعض أكبر شبكات الجريمة السّيبرانيّة عالميّاً. ومن تتبّع عمليّات غسيل العملات الرقمية إلى كشف جماعات الاحتيال المنظّمة، أصبحت "غروب آي بي" دعامةً أساسيّةً في حرب العالم ضدّ الجرائم الرّقميّة.
قال ديمتري فولكوف، المدير التّنفيذيّ لشركة "جروب آي بي" (Group-IB): "لا يمكن إيقاف مجرمي الإنترنت بمجرّد الاعتماد على التّكنولوجيا وحدها". وأضاف: "لمنع الهجمات السّيبرانيّة المقبلة، لا بدّ من كشف هؤلاء الجناة ومحاسبتهم. وإلّا، فإنّهم سيستمرّون في التّطوّر والتّسبّب بأضرارٍ أكبر. وحتّى يُقبَض عليهم، علينا تعطيل عمليّاتهم، سواء بتفكيك البنية التّحتيّة الخبيثة، واسترجاع الأموال المسروقة، وقطع الوصول إلى شبكات غسيل الأموال. ولا يتحقّق ذلك إلّا من خلال مزيجٍ من استخباراتٍ فعّالةٍ، وأدواتٍ متقدّمةٍ، وتعاونٍ دوليٍّ متينٍ".
وتختتم شركة "مايكروسوفت سيكيوريتي" (Microsoft Security) قائمة الشّركات الرّائدة، مستفيدةً من هيمنتها في الحوسبة السحابيّة وبرمجيات المؤسّسات لتوفير الحماية عبر منصّة "أزور" (Azure) و"مايكروسوفت ديفندر" (Microsoft Defender). وفي كثيرٍ من النّواحي، صارت مايكروسوفت البوّابة الرّئيسة للأمن السيبراني للشّركات العاملة ضمن منظومتها الرّقميّة.
معاً، تشكّل هذه الشّركات الدّرع الموازي لصناعة الجريمة السّيبرانيّة المتنامية؛ فهي ليست مجرّد مزوّدين للخدمات، بل شركاء في صمود المؤسّسات وحمايتها من الهجمات الرّقميّة.
دروسٌ مستفادة من الخروقات الكبرى
تُكتب مسيرة الأمن السيبراني تاريخيّاً عبر سجلّ الخروقات الكبرى؛ فقد كشف اختراق شركة "تارجت" (Target) عام 2013، الّذي تم عبر أحد البائعين الخارجيّين، مدى خطورة ضعف سلاسل الإمداد. وفي عام 2014، أبرز خرق "سوني بيكتشرز" (Sony Pictures)، المرتبط بكوريا الشمالية، هشّاشة شركات التّرفيه حتّى أمام التّوترات الجيوسياسيّة. أما هجوم "نوت بيتيا" (NotPetya) عام 2017، فسبّب خسائر عالميّةً بلغت 10 مليارات دولارٍ، مؤكّداً أن بعض الهجمات صُمّمت ليس للسّرقة فحسب، بل للتّدمير الكامل. وفي عام 2020، كشف اختراق تويتر الّذي استُولت خلاله على حسابات مشاهير للتّرويج للاحتيال بالعملات الرّقميّة، مدى هشاشة أقوى المنصّات الرّقميّة عالميّاً أمام الهجمات السّيبرانيّة.
فما الحلّ؟ بالنّسبة إلى الأفراد، تكمن القاعدة في الأساسيّات: كلمات سرٍّ قويّةُ، تفعيل المصادقة الثّنائيّة، تحديثاتٌ منتظمةٌ، والحذر من الرّوابط المشبوهة. أمّا الشّركات، فالجواب يكمن في الدّفاعات الطّبقيّة: تدريب الموظّفين، تدقيقاتٌ دوريّةٌ، أنظمة نسخٍ احتياطيّةٌ متينةٌ، وشراكاتٌ مع شركات الأمن السيبراني القادرة على كشف التّهديدات وإحباطها فوراً.
وينبغي على الحكومات أيضاً الاستثمار ليس في الدّفاع فحسب، بل في القدرة على الصّمود. فالأمن السيبراني لم يعد مجّرد محاولة منع كلّ هجومٍ، وهو هدف مستحيل، بل أصبح يتعلّق بضمان استعادة الأنظمة بسرعةٍ، واسترجاع البيانات، واستمرار المجتمع في العمل حتّى في مواجهة الاضطرابات.
الطّريق إلى المستقبل
سيشكّل المستقبل ملامح الأمن السيبراني من خلال التّقنيات النّاشئة؛ فقد فتح إنترنت الأشياء (Internet of Things – IoT) بالفعل مليارات نقاط الدّخول الجديدة أمام المهاجمين، فيما يظلّ الذكاء الاصطناعي أداةً دفاعيّةً بالغة القوّة، لكنّه متاح أيضاً لأولئك الّذين يسعون إلى توظيفه كسلاحٍ. والحوسبة الكمومية تمثّل تحديّاً حقيقيّاً لقدرة التّشفير الحالية على الصّمود. أمّا المدن الذّكيّة والمركبات المستقلّة وأنظمة الصّحة المتّصلة، فهي تجلب وعوداً كبيرةً لكنّها في الوقت نفسه تحمل مخاطر جسيمةً.
الواقع صارمٌ: لن يزول التّهديد أبداً. ولكن ميزان القوى يمكن أن يتحوّل. بالوعي، والاستثمار المدروس، والتّعاون الدّولي المتين، يمكن للمدافعين أن يواكبوا المهاجمين ويحافظوا على أمن المجتمع الرّقميّ في عالمٍ يتسارع فيه التّغيير.
الحرب الصّامتة مستمرة
أصبح الأمن السيبراني في عام 2025 أكثر من مجرّد بندٍ اختياريٍّ ضمن الميزانيّات؛ فقد أصبح حجر الزّاوية في بناء الثّقة داخل الاقتصاد الرّقميّ. ومن الأفراد الّذين يسعون لحماية هويّتهم، إلى الشّركات التي تحمي ملكيّاتها الفكريّة، وصولاً إلى الدّول الّتي تصون سيادتها، يبقى التّحدّي شاملاً وعالميّاً.
ومع تزايد تعقيد أساليب المهاجمين، يزداد تطوّر المدافعين، فتبرز شركاتٌ مثل "كراودسترايك" (CrowdStrike)، و"جروب آي بي" (Group-IB)، و"فورتي نت" (Fortinet)، و"دارك تريس" (Darktrace)، و"مايكروسوفت" (Microsoft) كحرّاسٍ للعالم الرّقميّ.
وفي هذه الحرب الصّامتة، لا يعني الانتصار القضاء على كلّ المخاطر، بل بناء القدرة على الصّمود، وكسب الثّقة، وضمان استمرار التّقدّم الرّقميّ بلا خوفٍ أو تعرّضٍ.