اعرف قيمتك: لم تُخلق لتكون صغيراً!
حين تتوقّف عن السّعي لنيل إعجاب الجميع، تدرك أنّ قيمتك لا تُقاس بلطفك الدّائم، بل بقدرتك على قول «لا» بثقةٍ، وعلى قيادة ذاتك دون اعتذارٍ
هناك نوعٌ من الإرهاق النّفسيّ يثقل كاهل الإنسان حين يسعى دائماً لنيل إعجاب الآخرين. فأن تكون ودوداً دائماً، أن تتحلّى باللّياقة، أن تكون من يُسهّل التّوتر ويختم الخلافات؛ قد تبدو الأمور بسيطةً، لكنّها تحمل ثقلاً خفياً يرهق النّفس، وثقله يتحمّله كثيرون، وخصوصاً النّساء، دون أن يشعروا بذلك. فالنّساء -منذ الصّغر- يُعلّمن كيف يكنّ محبوباتٍ، وكيف يتجنّبن إساءة الآخرين، وكيف يحتلن مساحةً محدودةً بدقّةٍ؛ لا أكثر ولا أقلّ. لا تكوني طموحةً جدّاً، ولا مباشرةً جدّاً، ولا صاخبةً جدّاً، ولا ناجحةً جدّاً. وإذا كان لا بدّ من ذلك؛ فلتخففي من حدّتها قليلاً كي تظلّي مقبولةً ومرغوبةً.
أنا لم ألعب هذه اللّعبة أبداً، لكنّني رأيت كم يتوقّّع المجتمع أن أفعلها، وخصوصاً كامرأةٍ في عالم الأعمال، حيث يزداد الضّغط على كلّ تصرّفٍ وكلّ كلمةٍ تُقال.
في بداية مسيرتي في مجال العقارات، قدّم لي والدي، المحامي النّاجح وأحد أكبر داعميّ، نصيحةً لن أنساها أبداً. كان يعرف طبيعتي جيّداً: جريئة، مباشرة، طموحة، لا وقت لديّ للتّزيين أو المراوغة، ومع ذلك قال لي: "دعهم يستخفّون بك في الاجتماعات، ودعهم يظنّون أنّك لست ذكيّةً، ودعهم يعتقدون أنّك بلا تأثيرٍ. هذا سيمنحهم شعوراً بالرّاحة، وعندما يشعر النّاس بالرّاحة، ينخفض حذرهم، يتحدّثون أكثر، ويكشفون عن المزيد. وأنتِ، بينما يقلّلون من شأنك، ستكونين تراقبين، تتعلّمين، تتحضّرين. وعندما يحين الوقت المناسب، ستنجزين الصّفقة بمعرفةٍ تفوق كلّ توقعاتهم. لا تضعي وقتك في تصحيح الجهل، بل استغليه لصالحك".
ظلّت تلك النّصيحة ترافقني دوماً: لا يمكنك التّحكّم في تصوّر الآخرين لك في عالم الأعمال، لكنّك قادرٌ على تحويل تحيّزاتهم المسبقة إلى نقطة قوّةٍ تحدد موقعك وتميّزك. فالواقع يقول إنّ ليس كلّ من حولك سيحبك؛ ليس حين ترفع أسعارك، ولا حين تتحدّث بصراحةٍ، ولا حين تقول «لا» دون اعتذارٍ، ولا حين تتولّى زمام القيادة.
هذا أمرٌ طبيعيٌّ تماماً؛ فيمكنك أن تكون لطيفاً وفي الوقت نفسه صامداً. ويمكنك أن تقدّم المساعدة دون أن تثقل كاهلك بما يفوق طاقتك. ويمكنك أن تبتعد عن أيّ مكانٍ لا يُقدّر احترامك ويُهمّش قيمتك.
كان لديّ عميلةٌ ممتازةٌ ترغب في الاستفادة من خدماتنا لتنظيم فعاليّةٍ لأحد عملائها. طلبت مني ابتكار أفكار وتصاميم تُعرض على عميلها مباشرةً. بعد الاطّلاع على موجز المشروع، ابتكرت شيئاً فريداً وجريئاً وأصليّاً لم يُنفّذ من قبل، وقد أُعجب العميل به على الفور.
لكن بعد أن اطّلعت على عرض السّعر، عادت إليّ بعد بضعة أيّامٍ لتخبرني أنّها تستطيع الحصول على الخدمة بسعرٍ أقلّ من جهةٍ أخرى، وطلبت مني تخفيض السّعر لمعادلة العرض الآخر.
كان ردّي مهذّباً، لكنّه حازمٌ: "بإمكانك بالتّأكيد أن تحصلي على الخدمة بسعرٍ أقلّ في مكانٍ آخر، لكن السّبب ليس أنّني أغلى، بل لأنّني صمّمت الفكرة وابتكرتها. للإبداع قيمةٌ، ومن يعمل على النّسخ قد يطلب أقلّ لأنّه لم يخلق شيئاً جديداً؛ فإن أخذت فكرتي إلى مكانٍ آخر، فلن تدفعي إلّا مقابل من يقلّدها".
فهمت العميلة موقفنا ووافقت، وأتممنا العمل بالسّعر المتّفق عليه.
الدّرس المستفاد؟ عليك أن تعرف قيمة نفسك -وقيمة وقتك، وأفكارك، وإبداعك- وتضع لها سعراً بثقةٍ. كنتُ أتقاضى الأجر مقابل فهمي لرؤيتهم، مقابل الإبداع والخبرة والأصالة الّتي شكّلت شخصيتي وجعلتني ما أنا عليه اليوم. ومن هذا المنطلق، جاءت هذه العميّلة إلينا، ومن هذا أيضاً بقيت معنا حتّى اليوم.
التقليص من شأن نفسك لا يحميك، بل يقوّض ثقتك تدريجيّاً، ويكلّفك فرصاً ثمينةً، ويجذب العملاء الخاطئين، ويعلّم الآخرين كيف يتعاملون معك، وإصلاح هذا الأمر لاحقاً صعبٌ للغاية.
اعرف قيمتك، دون أيّ اعتذارٍ، ففي اللّحظة الّتي تدرك فيها ذلك، سيتحوّل عالمك وعملك بالكامل. فأنت لست هنا لتكون صغيراً؛ أنت هنا لتقود بثقةٍ واحترامٍ لا يهتزّ. وعندما تفعل ذلك، ستجذب بالضّبط الأشخاص والفرص الّتي تُقدّر قيمتك وتردّها لك.
هذه القطعة مقتطفٌ محرّرٌ من كتاب "تقدّم مع التّوقف - ابدأ قبل أن تكون مستعدّاً" (Pause Forward – Start Before You’re Ready: Reflections on Trusting Yourself, Taking Risks, and Moving into Your Next Chapter) للكاتبة ماندي ماكميكان (Mandy McMechan، والمتوفّر الآن على أمازون.
شاهد أيضاً: الفشل ليس النهاية: كيف تبني طريق النجاح من جديد؟
عن الكاتبة
"ماندي ميكميكان" (Mandy McMechan) مؤسّسةٌ ورئيسةٌ تنفيذيّةٌ لـ "بلازير للهدايا والزهور" (Plaisir Cadeaux et Fleurs)، بوتيك فاخر للزّهور والهدايا في دبي، الّذي تحوّل خلال 9 سنواتٍ إلى علامة حياةٍ شاملةٍ تقدّم تجارب زهريّةً مخصّصةً، وتصاميم مبتكرةً، وخطّ عطورٍ حصريّاً. لقد حظي عملها بالاعتراف لمزجه اللّمسة الجماليّة الفرنسيّة الفريدة مع روح المنطقة، مع تعاوناتٍ تجاوزت حدود الشّرق الأوسط لتشمل بعض أرقى العلامات الفاخرة العالميّة.
إلى جانب دورها في بليزير كادو إيه فلور، تتولّى ماندي ماكميكان منصب مديرة التّطوير في إحدى شركات العقارات الرّائدة بدبي، حيث تقود جهود تأسيس قسمٍ جديدٍ وتطويره من خلال التّدريب والنّموّ الاستراتيجيّ. كما تُعرف كمتحدّثةٍ نشطةٍ، تقدّم رؤىً صادقةً حول واقع ريادة الأعمال، وتشجّع الآخرين على تقبّل التّغيير والثّقة بحدسهم في اتّخاذ القرارات.
وفي عام 2025، أصدرت ماندي كتابها الأول "تقدّم مع التّوقف – ابدأ قبل أن تكون مستعداً"، الّذي يُقدّم قراءةً صريحةً وعميقةً حول ريادة الأعمال، والمرونة، وإعادة ابتكار الذّات، مستوحاةً من خبرتها الّتي امتدت لعقدين في بناء الأعمال وتطويرها في دبي.