الرئيسية الذكاء الاصطناعي هل تعلم أنّ لعبة Candy Crush تصرف الملايين لتجعلَك تُدمنها؟

هل تعلم أنّ لعبة Candy Crush تصرف الملايين لتجعلَك تُدمنها؟

رسالةٌ سريعةٌ إلى رائد الأعمال العربيّ: إذا كانت King تحوّل النقرات إلى إيراداتٍ ضخمةٍ بفهمها العميق للبيانات والسّلوك، فماذا يمكنك أن تستفيد أنت من هذه الوصفة؟

بواسطة فريق عربية.Inc
images header

هل تعلم أنّ لعبةً بسيطة مثل "كاندي كراش" (Candy Crush) تنفق ملايين الدّولارات سنويّاً لتصميم تجارب تبقيك منغمساً، متوتّراً، متشوّقاً، وعالقاً في "المستوى التّالي"؟ ليس صدفةً أنّك تعود للّعب مراراً بعد الفشل، أو أنّ الإغراء بشراء قلبٍ إضافي يبدو في لحظته كخلاصٍ حقيقيّ.

وراء هذه اللعبة جيش من علماء البيانات، ومهندسي الذّكاء الاصطناعيّ، وخبراء النّفس السّلوكيّ، يعملون بدقّة على خلق بيئةٍ مثاليّةٍ للإدمان الرّقميّ. [1]

في هذا التّحقيق، نغوص في كيفيّة استخدام شركة King – المطوّرة لـCandy Crush – للتّقنيّات الذّكية والأساليب النّفسية لتعزيز التّفاعل، وتحقيق أرباح من إدمانٍ لا يبدو ضارّاً… لكنّه ليس بريئاً.

ما وراء الحلوى: كيف يعمل الذّكاء الاصطناعيّ في الخلفيّة؟

تطوّر شركة "كينغ" (King) منظومةً ضخمةً تطلق عليها داخل الشركة اسم "المحرّك السّلوكي"؛ وهي شبكةٌ من أكثر من 300 حالة استخدامٍ للذّكاء الاصطناعيّ تراقب ما يفعله كلّ لاعبٍ وتستجيب له في الوقت الحقيقيّ. تجري هذه المنظومة ما يقرب من 180 مليون تنبّؤٍ يوميّاً لتحديد أربع نقاط محوريّة:

  1. درجة التّحدّي المناسبة: إذا لاحظ النّظام أنّك تفضّل إحساس النّصر السّريع، خفّض صعوبة المستوى التّالي بنسبةٍ صغيرةٍ تُبقي الإثارة مع تجنّب الإحباط. أمّا إذا كنت تتقبّل الخسارة المتكرّرة، فسيبقي على الصّعوبة أو يرفعها قليلاً حتّى لا تشعر بالملل.

  2. التّوقيت المثاليّ للعروض: بعد ثلاث خساراتٍ متتاليةٍ، تظهر اللعبة عرضاً لـ"حزمة معزّزات" مخفّضة السّعر؛ لأنّ الخوارزمية تعرف أنّك في لحظة ضعفٍ نفسيٍّ وربما أكثر استعداداً للدّفع.

  3. التّعديل المستمرّ للمحفّزات البصريّة: عند انخفاض تفاعلك (مثل إغلاق اللعبة سريعاً)، يزيد النّظام من "ومضات" الألوان والانفجارات البصريّة في المراحل اللّاحقة؛ وقد أثبتت البيانات أنّ هذا الأسلوب يرفع معدّل بقائك داخل المستوى بنحو عشر ثوانٍ في المتوسّط.

  4. إشعارات العودة: إذا تركت الهاتف عند منتصف اليوم، يرسل النّظام إشعاراً شخصيّاً وقت استراحتك المعتادة، متضمّناً تنويهاً بأنّ "مستوىً سهلاً ينتظرك"؛ هذه الرّسالة القصيرة رُتّبت لأنّ النّموذج تعلّم من سجلّك أنّك تحبّ جدول التّعزيز السّريع بعد فترات انقطاع.

بهذه الطّبقات المتتابعة، لا تتلقّى أنت التّجربة نفسها التّي يتلقّاها صديقك؛ بل تفصّل اللعبة على مقاس سلوكك، فتمنحك دفعات "دوبامين" محسوبةٍ تبقيك معلّقاً بالرّغبة في "محاولةٍ أخيرة". هذه هي هندسة الإدمان بالتّعلّم الآليّ: خوارزميّاتٌ تراقب، تحلّل، تعدّل، وتكرّر الدّورة مئات المرّات في رحلتك القصيرة بين ضغطتين على الشاشة. [1] [2]

الذّكاء الاصطناعي يبيعك: تخصيص العروض التّرويجية

تخيّل أنّ شاشة هاتفك تحوّلت إلى متجرٍ ينبض بالحياة كلّما رفعت إصبعك عن زرّ "إعادة المحاولة". هذا ما تفعله منصّة التّوصية في "كينغ"؛ إذ تعيد حساب "أعلى عائدٍ نفسيٍّ" لكلّ لاعبٍ في أجزاءٍ من الثّانية، ثمّ تطلق واحداً من ثلاثة تكتيكاتٍ:

التّكتيك متى يظهر؟ مثالٌ حيٌّ داخل اللعبة
العرض السّريع (Flash Offer) بعد سلسلة خساراتٍ تظهر علامات إحباط "حزمتان من القلوب + معزّز المطرقة بـ0.99 دولار، ينتهي خلال 5 دقائق"
الحزمة المربوطة عاطفيّاً (Emotion-Bundle) إثر فوزٍ كبيرٍ يرفع مزاجك "معزّز قوس قزح + تذكرة حدثٍ خاصّ، خصم 40٪ احتفالاً بانتصارك!"
الارتقاء الهادئ (Soft Upsell) عندما يلاحظ تردّدك في الدّفع الأوّل "جرّب معزّزاً مجانيّاً، وإذا أعجبك احصل على 3 مقابل 1.99 دولار"

لماذا تبدو هذه العروض “مغريةً بلا مقاومة”؟

  1. توقيتٌ نفسيٌّ محسوبٌ: الخوارزميّة تنتظر لحظة انتعاش الدّوبامين (بعد الفوز) أو لحظة الإحباط (بعد الخسارة المتكرّرة)، فتقدّم العرض حين تكون أكثر قابليةً للنقر.

  2. تسعيرٌ دقيق: يقسّم اللاعبون إلى شرائح "دفعٍ محتمل"؛ فيحصل الوافد الجديد على تخفيضٍ حادٍّ، بينما يعرض على اللاعب المخضرم ترقيةٌ أغلى لكن مفصّلةٌ على تفضيلاته.

  3. لغة واجهةٍ شخصيّةٌ: تظهر كلماتٌ مثل "هديةٌ لك"، "احتفالاً بفوزك"، أو "لوقتٍ محدود"—اختبارات A/B داخليةٌ أثبتت أنّ هذه التّراكيب ترفع النّقرات عشرات النّقاط المئويّة.

الصّورة الكبرى: لا يرى اللاعب "سلعةً" بل يرى "فرصة تقدّمٍ" تخاطب مشاعره اللّحظيّة؛ وهنا يكمن التّحويل السّلس من المتعة المجّانية إلى الإنفاق الطّوعيّ. [3]

من طاولات القمار إلى شاشة الهاتف: خريطة الإدمان السّلوكيّ داخل Candy Crush

إذا كان الذّكاء الاصطناعيّ هو المحرّك، فإنّ علم النّفس السّلوكيّ هو الوقود الذّي يبقي المحرّك مشتعلاً.
‎تستعير "كينغ" أكثر تقنيّات الكازينوهات إحكاماً، ثم تعيد تغليفها في قالبٍ فسيفسائيٍّ ملوّن يجعلها تبدو "لعبة أطفال". إليك التّفاصيل مدعومةً بأمثلةٍ حيّةٍ من داخل المستوى.

1. جدول التّعزيز المتغيّر (Variable Ratio)

  • كيف يعمل في القمار؟ تكبس زرّ ماكينة القمار ولا تعلم متى ستربح. العشوائيّة تولّد توقّعاً دائماً، فيغدو كلّ سحبٍ محاولةً "قريبةً جدّاً" من الفوز الكبير.

  • ترجمته في Candy Crush: تعطيك اللعبة سلسلة خساراتٍ متتابعة، ثم تفاجئك بانتصارٍ كاسحٍ يفتح مستوى جديداً ويغدق الألوان والأصوات. هذا التّناوب بين الإحباط والانتصار المفاجئ يبقي دماغك معلّقاً بحثاً عن "الضّربة التّالية". [5]

مثال حيّ: تقضي ثلاث محاولاتٍ على مستوىً ما بلا نجاح، ثم في المحاولة الرّابعة "تسقط" خمس حلوى شريطيةٌ تلقائيّاً في مكانٍ يسبّب انفجاراً هائلاً يحسم المستوى. لم يأت هذا التّرتيب صدفةً؛ إنّه جزءٌ من منحنى صعوبةٍ معايرٍ يوزّع الانتصارات بصورةٍ عشوائيّةٍ محسوبة.

 

2. الانتصار الضّائع (Near Miss)

  • جذوره في القمار: الخسارة بفارق رمزٍ واحد في آلة السّلوت تحفّز مراكز الدّوبامين بقوةٍ تقارب الفوز الفعليّ، وتضاعف الإصرار على اللعب.

  • تطبيقه في اللعبة: تتبقى لك حركةٌ واحدةٌ لإسقاط آخر قطعة "جيلي"؛ تحرّكها، لكن ظهور حلوى عشوائيّة يوقف سلسلة التّفجير، فتنتهي القلوب. تشعر أنّ الفوز كان في متناول يدك، فتضغط "إعادة المحاولة" أو تشتري القلوب فوراً.

دليل بحثيّ: تجربةٌ في جامعة "بريتيش كولومبيا" (British Columbia) أظهرت أنّ "الانتصارات الضّائعة" رفعت معدّل استمرار اللاعبين 23٪ أكثر من الخسارة العاديّة، وتأثيرها العصبيّ شبيهٌ بجرعةٍ صغيرةٍ من المنبّهات. [4]

 

3. القلوب المقنّنة (Timed Lives)

  • الفكرة الأصليّة: أجهزة القمار تجبرك على التّوقّف لاستبدال النّقود أو تبديل الماكينة، ما يجعل العودة أكثر حماساً.

  • التّنفيذ في Candy Crush: خمس قلوبٍ فقط لكلّ جلسة. عند نفادها يبدأ عدّاد انتظارٍ (مثلاً 25 دقيقة). خلال العدّ التّنازليّ، تصلك إشعاراتٌ: "★ مكافأة في انتظارك! ★" في اللحظة التّي تعلّم النّظام أنّك غالباً تتفقّد الهاتف فيها.

  • نتيجة الحرمان المؤقّت: الدّراسة التّي أجريت في "هارفارد" (Harvard) حول "تأثير التّوقّف الاضطراريّ" بيّنت أنّ لذّة العودة ترتفع بمتوسط 34٪، واحتمال شراء القلب الفوريّ يرتفع 19٪ لدى اللاعبين الذّين سبق أن دفعوا مرةً واحدة. [5]

4. وهم السّيطرة (Illusion of Control)

  • الميكانيكا في القمار: ألعاب الرّهان تقدّم "قراراتٍ" تبدو مهمّة (اختيار لون الورقة، مثلاً) لكنّ الاحتمالات ثابتة؛ اللاعب يشعر أنّ مهارته فارقةٌ بينما النّتيجة محسومةٌ إحصائيّاً.

  • الصّيغة في اللعبة: تبيعك "معزّز المطرقة" أو "قنبلة اللون" لتزيح قطعةً مستعصية… فيبدو أنّك تتحكّم. الواقع؟ توزيع الحلوى اللاحق مضبوطٌ لتظلّ نسبة النّجاح في نطاقٍ لا يقتل التّحدّي ولا يمنح سيطرةً حقيقية.

  • دافع الشراء: لأنّك تظنّ أنّ أداةً إضافيّةً "ستكسر حظّك السّيّئ"، تدفع دولاراً هنا واثنين هناك؛ في 2024 جنت المعزّزات وحدها قرابة 70٪ من عائدات التّطبيق وفق أرقام [6] Sensor Tower. 

الخلاصة التّكاملية

يجتمع جدول التّعزيز المتغيّر مع الانتصار الضّائع ليبنيا رغبةً ملحّةً في "محاولة أخيرة". يسدّ نظام القلوب المقنّنة الطّريق مؤقتاً، فيخلق عطشاً نفسيّاً. وعندما تفتح البوّابة مجدداً، يبرز وهم السّيطرة ليدفعك إلى شراء ما تعتقد أنّه مفتاح النّصر. هكذا تتحوّل الحلقة من مجرّد تسليةٍ لدقائق إلى عادةٍ متكرّرةٍ تدرّ ملايين الدّولارات يوميّاً على الشركة، بينما يخرج اللاعب وهو يشعر أنّ كلّ قرارٍ كان نابعاً من إرادته الحرّة.

نموذج العمل: مسطرة الأرباح تقيس "الحيتان" لا جمهور الألعاب

تفاخر لعبة "كاندي كراش" (Candy Crush) بقاعدةٍ جماهيريةٍ تقارب 200 مليون لاعبٍ نشطٍ شهريّاً، لكنّ معادلة النّقد داخل التّطبيق تسير على خطى "مرجل بارتو": 2٪ فقط من هؤلاء يطلق عليهم في صناعة الألعاب لقب "الحيتان" (Whales)، وهم لاعبون ينفقون مبالغ تفوق المعدّل بعشرات المرات. هذا الشطر الضّئيل هو الذّي ضخّ الغالبية العظمى من الإيرادات، مساهماً في تجاوز مجمل عوائد اللعبة 20 مليار دولار منذ إطلاقها عام 2012 .

لماذا يقبل السّوق هذه الفجوة الصّارخة؟

بندٌ تحليليّ تفسيره داخل "كاندي كراش" الأثر الماليّ
القيمة العمرية للعميل (LTV) الحوت الواحد يمكن أن ينفق المئات شهريّاً على قلوبٍ ومعزّزاتٍ واشتراكاتٍ موسمية. يعوّض إنفاقه عن آلاف اللاعبين المجّانيين (Freemium).
اقتصاديات التّركيز (Revenue Concentration) كلّ تطويرٍ جديدٍ (حدثٌ, معزّزٌ مميّز) يختبر أوّلاً على شرائح الحيتان لضمان أعلى عائدٍ على الكود المكتوب. تنزاح أولويّة الابتكار نحو عناصر تدفع الحيتان لزيادة الإنفاق، لا نحو تحسين التّجربة للجميع.
مخاطر التّشبّع (Whale Fatigue) اعتمادٌ مفرطٌ على قلّةٍ يجعل الإيراد هشّاً أمام تقلبات سلوك تلك القلّة أو تركها اللعبة. تحتاج الشركة إلى مضاعفة التّكتيكات الإدمانية للحفاظ على "الحوت" داخل الحوض.

[6]

الاعتراضات الأخلاقية والقانونية

  • ترسيخ العادات القهرية: تشير أبحاث "الجارديان" ودراسات "جامعة يورك" إلى أنّ تكرار دورات الخسارة/الفوز وجدول الحرمان (القلوب) ينشئ سلوكاً مشابهاً لاضطراب المقامرة القهريّ (Compulsive Gambling) لدى بعض المستخدمين. [7]

  • استغلال الفئات الضّعيفة: تبيّن تحليلات منظمة "Children and Media Australia" أنّ المراهقين، وذوي الدّخل المنخفض، ومن يعانون تاريخاً مع الإدمان، هم الأكثر تحوّلاً إلى حيتانٍ بفعل العروض المصمّمة خصّيصاً لاستغلال نقاط ضعفهم السّلوكية. [8]

  • دعوات التّشريع: لجان برلمانيةٌ في بريطانيا وهولندا طالبت بشفافيةٍ أكبر حول نسب الإنفاق، وحدود الشراء اليوميّ، مشيرةً إلى تشابه اقتصاد "المعزّزات" مع "لوت بوكس" (Loot Boxes) الخاضعة لمراقبة المقامرة.

ماذا نتعلّم نحن – روّاد الأعمال – من حكاية "كاندي كراش"؟

أوّل درسٍ يفرض نفسه هو أهميّة الاستثمار في البيانات الدّقيقة؛ فمن خلال التقاط كلّ ضغطة إصبعٍ وكلّ ثانية تردّدٍ، استطاعت "كينغ" أن تصمّم تجربةً شخصيّةً تثبّت ولاء اللاعب على نحوٍ لا يمكن للحملات العامّة أن تحقّقه. ولعلّ صاحب متجرٍ إلكترونيٍّ عربيٍّ يتعلّم من ذلك أن يربط سجلّ التّصفّح بزمن التّصفّح، فيرسل عرضاً خاصّاً في اللحظة التّي اعتاد فيها العميل الشراء، فيرفع معدّل التّحويل من الاهتمام إلى الدّفع دفعاً طبيعيّاً خالياً من الإلحاح.

ثمّ يأتي درس الموازنة بين الآلة والبشر؛ فالذّكاء الاصطناعيّ يرفع الكفاءة وينتج توصياتٍ لا يقدر الإنسان على مضاهاتها كمّاً، لكنّ "عين الإنسان" وحدها تحفظ الإبداع وتحرس القيم الأخلاقيّة. لذلك، من الحكمة أن تترك الخوارزميات تنتج المسوّدات الأوّليّة، ثم يمرّ عليها فريق المحتوى ليهذّب اللغة ويستبعد أيّ تحيّزٍ ثقافيٍّ أو خطأٍ سياقيٍّ قد يهدم الثّقة.

أمّا الدّرس الثّالثّ، فهو وجوب احترام وعي العميل؛ فتقنيّات تحفيز الإدمان قد ترفع الأرباح سريعاً، ولكنها تعرّض العلامة لخطر التّشريعات والغضب المجتمعيّ على المدى البعيد. الشفافيّة – في إبراز التّكلفة الحقيقية، وإتاحة حدودٍ ذاتيّةٍ للإنفاق، وخيار إيقاف الإشعارات الملحّة – تشيّد جداراً من الثّقة يحمي الشركة من الاتهام بالاستغلال، ويحوّل العميل الواعي إلى سفيرٍ للعلامة لا مجرّد مشترٍ عابر.


آخر تحديث:
تاريخ النشر: