نقول «نعم» بينما نعني «لا»: هل ندفع الثمن من أعمارنا؟
حين تتحوّل موافقاتنا الصّغيرة إلى تنازلاتٍ متراكمةٍ، يتسرّب الوقت وتتآكل الطّاقة وتختفي أولويّاتنا تدريجيّاً، ليظهر الثّمن الخفيّ لإرضاء الآخرين على حساب ذواتنا الحقيقيّة
كلنا نحبّ أن يكون الآخرون معنا. ابتسامةٌ هنا، خدمةٌ هناك، يبدو الأمر بلا أثرٍ ضارٍّ. ولكن الرّغبة في إرضاء النّاس ليست مجرّد كرمٍ، بل إنّها تأتي بثمنٍ. يشبه الأمر أن تسلّم بطاقة مصرفك لشخصٍ آخر قائلاً: "تفضل، خذ ما تشاء." إلّا أنهم لا يصرفون مالك، بل يصرفون وقتك.
والأمر الأكثر تأثيراً: في كلّ مرّةٍ تسلّم فيها تلك البطاقة، في كلّ مرّةٍ تقول "نعم" بينما تعني "لا"، يتناقص رصيدك. وعلى عكس الحساب المصرفيّ الحقيقيّ، لا أحد يعيد لك شيئاً. هذا هو الثّمن الحقيقيّ لإرضاء الآخرين.
الفاتورة الخفية
تبدو التّضحيات في البداية طفيفةً، ليلة عملٍ أخرى متأخرّةٌ، خطّةٌ اجتماعيّةٌ أخرى قُبلت بدافع الالتزام، مشكلةٌ أخرى حملناها رغم أنّها لم تكن من مسؤوليّاتنا. ومع الوقت، تتشابك هذه التّنازلات الصّغيرة لتشكّل نمطاً يكشف خطورةً خفيّةً: حاجات الآخرين تأتي دائماً قبل حاجاتنا.
تحمل كلّ "نعم" غير ضروريّة ثمناً خفيّاً؛ فالوقت يُهدر، والطّاقة تُستنزف، والأولويّات تتأجّل، وما يظهر للآخرين كموثوقيّةٍ غالباً ما يشعرنا نحن بالإرهاق والفراغ. والأمر الأصعب أنّ هذا التّآكل لا يظهر فجأةً، بل يتراكم تدريجيّاً: تعبٌ مستمرٌّ، استياءٌ خفيٌّ، شعورٌ بالاختفاء، وتساؤلٌ صامتٌ عمّا إذا كانت حياتنا تُعاش وفق شروطنا أم وفق شروط الآخرين.
لماذا نستمر في قول "نعم"
غالباً ما تبدو الموافقة على مطلبٍ ما أسهل من رفضه، إذ إنّها تُجنّب الصّراع، وتمنع خيبة الأمل، وتحافظ على مظهر الكفاءة والموثوقيّة. ولكن تحت هذا، ينشأ سردٌ آخر: حدودنا قابلةٌ للتّفاوض، وقيمتنا مرتبطةٌ بتوفّرنا للآخرين، وصوتنا أقلّ أهميّةً من رضاهم. هذا ليس لطفاً؛ إنّه البقاء على قيد الحياة على حساب أصالتنا.
العامل الذي يحوّل المعادلة
يمكّننا الاحترام الذّاتيّ من أن نرسم حدودنا بلا شعورٍ بالذّنب، وأن نتّخذ قراراتنا بلا اعتذارٍ، وأن نكون حاضرين بأصالتنا بدل الالتزام القسريّ. هذا الوعي يوضّح لنا أنّ طاقتنا ليست بلا حدودٍ، وأنّ رفض طلبٍ لا يساوي رفض الشّخص، وأنّ حماية ما نملك من طاقةٍ تمكّننا من العطاء حين يكون الأمر حقّاً جوهريّاً. وبينما تساعدنا الثّقة على إيجاد الكلمات، يمنحها الاحترام الذّاتيّ الثّقل الّذي يجعلها فاعلةً.
ولأنّ العادات لا تتبدّل سريعاً، فلن يختفي هذا التّمرين في يومٍ واحدٍ. سنتهيّأ لقول «لا» بثقةٍ، ثم يطرأ سبب يبدو مقنعاً يضعف عزيمتنا. غير أنّ الأمر ليس قدراً محتوماً؛ فالحيلة بسيطةٌ وفاعلةٌ: كلما قلت «نعم» لشيءٍ جديدٍ، أفسح مكاناً له بحذف آخر من جدولك. هكذا تبقى طاقتك مركّزةً، ويصدر قرارك عن إرادتك لا عن ضغطٍ يفرضه الآخرون.
لماذا يهم هذا
نعيش في ثقافةٍ تمجّد ازدحام الجداول وتُقدّس الموافقة الدّائمة. غير أنّ خلف هذا القناع من الإنتاجيّة والكرم، يتوارى كثيرون يُنهكون بصمتٍ، يدفعون الثّمن الخفيّ للموافقة المستمرّة.
قول «لا» ليس أنانيّةً، بل ضرورة؛ فهو الأساس الّذي يمنح «نعم» اللّاحقة معناها الأعمق وقوّتها الأصدق واستدامتها الحقيقيّة. إن ثمن أن نقول «نعم» ونحن نعني «لا» باهظٌ، لكنّ المكافأة على اختيار الانسجام بدل الإرضاء أثمنٌ؛ إنّها فرصةٌ لنحيا باتّساقٍ ونقاءٍ، وبصوتٍ يشبهنا حقّاً.
عن الكاتبة
الدكتورة كاثرين إيسكو (Dr. Katherine Iscoe) متحدّثةٌ تحفيزيّةٌ تدعو القادة إلى خوض مجازفاتٍ أكبر عبر التّحرّر من وهم الأحكام والانتقادات المتخيّلة. تشغل عضويّة مجلس إدارة، وشغلت سابقاً منصب الرّئيسة التّنفيذيّة لشركةٍ تكنولوجيّةٍ مدرجةٍ مزدوجةٍ، وهي مؤلّفةٌ وخريجةٌ بمرتبة الشّرف العليا (Summa Cum Laude). تجمع بين صرامة البحث الأكاديميّ وخبرةٍ حياتيّةٍ عميقةٍ تجاوزت بها مراحل من كراهيّة الذّات واضطراب الأكل والاكتئاب وأفكار الانتحار.
تركّز اليوم في أعمالها على المكوّن المفقود في القيادة: احترام الذّات، مقدّمةً ممارساتٍ يوميّةً واقعيّةً تمكّن الأفراد من التّخلّي عن الأقنعة، واستعادة الثّقة بأنفسهم، وصنع أثرٍ أوسع وأصدق في محيطهم.