سيكولوجية اللّوم: أسباب الشّعور بالرّضا عند اتّهام الآخرين
قد يبدو اللّوم مُرضياً لحظيّتً، لكنّ بن هاردي، أستاذ السّلوك التّنظيميّ في كلّيّة لندن لإدارة الأعمال، يرى أنّ بناء بيئةٍ من الأمان النّفسيّ هو مفتاح التّعلّم من الإخفاق وصناعة تحسّنٍ يدوم

تتردّد مقولةٌ قديمةٌ مفادها أنّ للنّجاح آباءً كثراً، بينما يبقى الإخفاق يتيماً، غير أنّ هذا الادّعاء يغفل حقيقةً راسخةً؛ فما إن يقع إخفاقٌ ما، حتّى يبدأ الأفراد بحثهم عن الأطراف المعنيّة لتحميلهم مسؤوليّة هذا الإخفاق ونتائجه. وباختصارٍ، عندما تنحرف الأمور عن مسارها المأمول، يتّجه التّركيز بشكلٍ شبه تلقائيٍّ نحو تحديد شخصٍ أو جهةٍ لتحمّل وزر ما حدث.
وفي هذا السّياق، يبرز تساؤلٌ جوهريٌّ حول الخطوة التّالية لوقوع خللٍ ما. وغالباً ما يتجلّى المسعى في شقّين أساسيّين: أوّلهما، إصلاح الخلل القائم وتجاوز تبعاته؛ وثانيهما، اتّخاذ التّدابير اللّازمة لضمان عدم تكراره في المستقبل. وبالتّالي، لا يحمل اللّوم أيّ فائدةٍ في هذا السّياق. إنّ احتماليّة اللّوم تدفع المرء نحو الابتعاد عن الأخطاء قدر الإمكان، إلّا أنّ الأرجح من ذلك هو لجوء الفرد إلى إخفاء الخطأ، أو إلقاء مسؤوليّته على شخصٍ آخر. فاللّوم في حدّ ذاته لا يقدّم حلّاً للمشكلة، بل قد يعيق استخلاص الدّروس والتّعلّم من التّجربة.
إذاً، ما الّذي يدفعنا لتوجيه اللّوم نحو الآخرين؟ والإجابة قد تبدو بسيطةً وغريبةً في آنٍ واحدٍ. تكمن خلف هذا السّلوك ثلاثة دوافع رئيسيّةٍ، هي الشّعور بالأمان، والرّغبة بالتّحكّم، وإرضاء الذّات.
لتوضيح ذلك، لنفترض أنّ زميلةً في العمل، وليكن اسمها نورٌ، ارتكبت خطأً خلال اجتماعٍ. قد يرغب الآخرون في إلقاء اللّوم على نورٍ لحماية أنفسهم. فإذا كان خطأ نورٍ يستغرق وقتاً وجهداً، يتحوّل التّركيز تلقائيّاً بعيداً عن الآخرين، ممّا يجنّبهم التّعرّض للمساءلة المباشرة. وهكذا، يتحقّق لديهم شعور الأمان، حتّى وإن كان ذلك على حساب موقف نورٍ.
كما يمنح توجيه اللّوم إلى نورٍ إحساساً بالتّحكّم والانضباط. فبمعرفة المسؤول، أصبح تجنّب تكرار هذا الخطإ في المستقبل أمراً مؤكّداً. وما بدا كسلسلةٍ فوضويّةٍ من الأحداث في البداية، اتّخذ الآن شكلاً وقصّةً متماسكةً، تبرز فيها نورٌ كشخصيّةٍ محوريّةٍ وملامةٍ.
أمّا الدّافع الأعمق لإلقاء اللّوم على الآخرين، فيكمن في إرضاء الذّات بطريقتين متباينتين. ففي البداية، يقوّي اللّوم الرّوابط الاجتماعيّة، باعتباره يقوم على تحميل المسؤوليّة لطرفٍ ثالثٍ. ويبدو هذا النّمط متأصّلاً في الطّبيعة الإنسانيّة، يعمل كآليّةٍ للتّخلّص من المشاعر السّلبيّة، حيث يشترك الأفراد في التّحرّر من المسؤوليّة والشّعور بالسّخط الجماعيّ.
ثانياً، يخلق اللّوم إحساساً بالثّقة في الكفاءة الذّاتيّة. ففي الغالب، لا يكون المرء على درايةٍ كاملةٍ بمستوى أدائه في العمل، إنّما عند اللّوم يصبح متفوّقاً على معيارٍ محدّدٍ، هو نورٌ في مثالنا. ويعزّز هذا الأمر بدوره الثّقة بالقدرات المهنيّة.
يسلّط المثال السّابق الضّوء على دوافع اللّوم، لكن لا بدّ من مناقشة النّتائج المترتّبة عن هذا السّلوك. كانت العواقب واضحةً بالنّسبة لنورٍ؛ فالتّوبيخ العلنيّ في اجتماعٍ هو تجربةٌ مزعجةٌ تدفع الفرد العاقل إلى محاولة تجنّبها، فقد يلجأ إلى إخفاء الأخطاء أو محاولة إلصاق المسؤوليّة بشخصٍ آخر. وسيلاحظ الحاضرون في الاجتماع ما تعرّضت له نورٌ، ويتّبعون هذه السّلوكيّات للتّهرّب من اللّوم. وعلى إثر ذلك، سيتجنّبون الإبلاغ عن الأخطاء، وسيهدر قدرٌ كبيرٌ من الوقت والجهد في محاولات التّملّص من المساءلة عند انكشافها.
ولمعالجة أيّ مشكلةٍ واكتساب دروسٍ منها، لا بدّ من تكوين فهمٍ شاملٍ لها ومعرفة أسبابها الظّاهرة والحقيقيّة. ويبرز في هذا السّياق مجال سلامة الطّيران كمثالٍ توضيحيٍّ؛ فحادثة تجاوز المدرج أثناء الهبوط، على سبيل المثال، قد تعزى إلى أسبابٍ ميكانيكيّةٍ كعطلٍ في المكابح، أو إلى خطأ بشريٍّ صادرٍ عن الطّيّار. ومع ذلك، فإنّ إلقاء اللّوم على الطّيّار وحده لا يحقّق الهدف المنشود في تعزيز السّلامة، بل يجدر بالمسؤولين أيضاً استيعاب الظّروف الّتي أدّت إلى وقوع هذا الخطإ. ويتطلّب ذلك تحليل عوامل متعدّدةٍ، مثل ضغط العمل وأنظمة المناوبات، بالإضافة إلى ديناميكيّة التّفاعل بين أعضاء طاقم القيادة، وغيرها من المؤثّرات. إنّ الفهم المتعمّق لهذه الجوانب هو السّبيل الوحيد لتفادي تكرار مثل هذه المشكلات في المستقبل.
كما يستلزم تقليل الأخطاء وتحسين الأداء تجاوز الخوف، والابتعاد عن التّركيز المفرط على الذّات وإلقاء المسؤوليّة على الآخرين. يجب أن ينصبّ التّركيز، عند وقوع الخطأ، على استخلاص أقصى قدرٍ من الدّروس والعبر للاستفادة منها في المستقبل.
وتوجد إرشاداتٌ قليلةٌ وفعّالةٌ لهذه العمليّة، يتمثّل أوّلها في اعتبار أيّ إخفاقٍ فرصةً للتّعلّم، وليس سبباً للّوم. فالفشل الحقيقيّ هو الإخفاق في استخلاص أيّ فائدةٍ من تبعات الخطأ.
أمّا ثانياً، يجب على المدير إظهار ردّ فعلٍ متّزنٍ، وتجنّب التّعبير عن الانطباع الأوّل، لأنّه غالباً ما يكون دفاعيّاً وعاطفيّاً، ممّا يؤكّد أهمّيّة التّأنّي والتّفكير قبل الاستجابة. كما يستحسن تهيئة مناخٍ من الأمان النّفسيّ يسمح للأفراد بالتّحدّث عن الأخطاء والمخاوف وطرح الاستفسارات، وهو ما أكّدته آنا مول من شركة نستله للعلوم الصّحّيّة، الّتي ركّزت على ضرورة طرح المشكلة أمام الجميع للتّعاون على فهمها وتحديد كيفيّة التّعامل معها.
إنّ تجنّب إلقاء اللّوم لا يعني التّسامح مع الأخطاء أو تجاهل الإهمال، بل هو سعيٌ لفهم الدّوافع العميقة لحدوثها. قد يكون اللّوم شعوراً مرضياً بشكلٍ ما، ولكنّه، كالكثير من المشاعر الآنيّة، لا يحقّق فائدةً حقيقيّةً.