رفض 3 مليارات دولار: القرار الذي أنقذ Snapchat أو كاد يدمّره
من غرفة المعيشة إلى مواجهة العمالقة.. قصة القرار الذي أشعل حربًا باردة وأدار ظهره للمليارات

تخيّل أنّك صاحب شركةٍ ناشئةٍ مجهولة المصير، في بداية العشرينيّات من عمرك، تتلقّى عرضاً بقيمة ثلاثة مليارات دولارٍ مقابل التّخلّي عن الشّركة؟
يبدو الرّفض ضرباً من ضروب الجنون، إلّا أنّ إيفان شبيغل وبوبي مورفي مؤسّسا شركة "سناب شات" (Snapchat)، بالفعل رفضا العرض الّذي قدّمته شركة فيسبوك عام 2013، على الرّغم من أنّ سناب شات وقتها لم تكن تمتلك أيّ خطّة ربحٍ واضحةٍ، وكانت ميزتها الأساسيّة إرسال صورٍ ومقاطع فيديو تختفي بعد مشاهدتها، وهي فكرةٌ بسيطةٌ سهلة التّقليد [1].
فما الّذي دفع شابين ببداية حياتهما لرفض هذه الثّروة والمغامرة؟ ربّما المخاطرة جوهر الشّركات النّاشئة؟ أو الطّموح؟ أو ماذا بالضّبط؟
من أين بدأت Snapchat؟
في أحد أيّام عام 2011، جلس شابان في غرفة معيشةٍ متواضعةٍ داخل سكنٍ طلّابيٍّ في جامعة ستانفورد، يتبادلان أفكاراً غريبةً عن التّواصل الرّقميّ.
كما لو أنّ أحدهما، ريجيّ براون، يتساءل بشيءٍ من العبث: "تخيّل لو أنّ الصّور ترسل… ثمّ تختفي بعد أن تفتح؟"، لربّما ضحك صديقه إيفان شبيغل، إلّا أنّه بالتّأكيد لم ينس السّؤال الّذي حفر في داخله فكرةً!
تلك الفكرة البسيطة، الّتي بدت تافهةً في ظاهرها، أشعلت في شبيغل شرارة مشروعٍ جديدٍ، لم تكن لديهما الخبرة التّقنيّة الكافية، لذا استعانا بصديقٍ ثالثٍ، بوبي مورفي، طالب الهندسة الهادئ، ليحوّل الفكرة إلى كودٍ حيٍّ.
وهكذا، ولد التّطبيق الأوّل في صيف عام 2011، تحت اسم "بيكابو" (Picaboo)، قبل أن يعاد إطلاقه لاحقاً باسم سناب شات، بعد خلافٍ مع شركةٍ تحمل الاسم ذاته.
كان عمر المؤسّسين لا يتجاوز الثّانية والعشرين، وكان طموحهم بسيطاً في ظاهره، لكنّه جريءٌ في جوهره: بناء وسيلة تواصلٍ عابرةٍ، لا تحتفظ بالماضي، ولا تمنح فرصةً للتّراجع.
في وقتٍ كانت فيه مواقع التّواصل تسعى لتوثيق كلّ لحظةٍ، ظهر سناب شات كنوعٍ من التّمرّد الرّقميّ منصّةً للبوح اللّحظيّ، تنتهي بمجرّد أن تشاهد.
ولكن رغم انتشاره السّريع بين المراهقين، ظلّ التّطبيق بلا نموذج ربحٍ واضحٍ، ورغم تفرّده النّسبيّ، كانت فكرته قابلةً للتّقليد، وهذا تحديداً ما جعل أنظار فيسبوك تتّجه نحوه في قلقٍ.
وهنا بدأت ملامح صراعٍ صامتٍ، بين عملاقٍ تقنيٍّ يسعى للسيطرة، وشركةٍ ناشئةٍ بالكاد خرجت من غرفة المعيشة [2].
لحظة القرار الكبير: الرّفض
في أروقة وادي السّيليكون، عندما يبدي مارك زوكربيرغ اهتماماً بشركتك، فالأمر يحمل معنى واحداً فقط شركتك تهدّد هيمنة فيسبوك.
ذلك ما شعر به إيفان شبيغل في عام 2013، حين تلقّى بريداً إلكترونيّاً ودّيّاً من زوكربيرغ، يدعوه فيه لزيارة مقرّات فيسبوك، والحديث وجهاً لوجهٍ.
لم يكن العرض معلناً بعد، لكن النّوايا واضحةٌ… وكان شبيغل ذكيّاً بما يكفي لقراءتها، ردّ شبيغل بأدبٍ، لكن بثقة لافتة: "يسرّني الالتقاء بك، لكن فقط إن جئت إليّ بنفسك"، لم يكن الرّدّ سهلاً على مؤسّس فيسبوك (ميتا اليوم).
شابٌّ في أوائل العشرينات، لم يجرّب طعم الرّبح بعد، يتحدّث بهذه النّبرة لأحد أغنى رجال العالم، نعم كانت تلك الجملة، رغم بساطتها، أوّل مواجهةٍ نفسيّةٍ بين الطّرفين مواجهةٌ بين شابٍّ يحمل فكرةً، ورجلٍ يحمل سلطةً.
لاحقاً، قدّم زوكربيرغ العرض الرّسميّ، ثلاثة مليارات دولارٍ نقداً لشراء سناب شات، لم تكن هناك أرباح، ولا منهج عملٍ واضح، ولا حتّى حمايةٌ تقنيّةٌ قويّة تضمن التفرّد.
لكن شبيغل لم يتردّد، قال: لا بكل ثقة، لا تفاوض، لا مهلة، لا تفكير ولا شكوك، وكأن الرّفض لم يكن مجرّد قرارٍ ماليٍّ، بل بيان هويّةٍ، كان يعني أنّ شبيغل يرى شيئاً لا يراه الآخرون، شيئاً لا يمكن تقييمه بالأرقام فقط، لكن زوكربيرغ، كما هو معلوم، لا ينسحب بسهولة.
في أحد اللّقاءات التالية، حاول مارك أن يظهر القوّة بطريقته الخاصّة، فعرض على شبيغل نسخةً من تطبيق جديدٍ طوّرته فيسبوك: "بوك" (Poke) محاولةً مكشوفةً لتقليد سناب شات، ووضعه أمام الأمر الواقع.
لكن شبيغل لم يظهر ارتباكاً وبخلاف ذلك عاد إلى شركته، ثّم استدعى فريقه على عجلٍ، ووزّع عليهم نسخاً من كتاب "فن الحرب"، لم يكن هذا التصرّف من باب التنظير، إنّما كخطّةٍ دفاعيّةٍ، شبيغل كان واثقاً أنّ الحرب الحقيقيّة بدأت للتّو، وأنّهم لن يواجهوا منافساً تقليديّاً، إنّما ماكينة ضخمة تمتلك المال، والبيانات، والقدرة على التقليد دون أيّ رحمة.
فيسبوك كانت مستعدةً لنسخ كلّ ميزةٍ، ومطاردة كلّ فكرةٍ، وتحويل كلّ لمسة خاصّةٍ في سناب شات إلى جزءٍ من منتجاتها، لكن شبيغل لم يكن مستعدّاً للتنازل لا عن رؤيته، ولا عن شركته، ولا عن حقّه في أن يحلم… بطريقته [3].
الأسئلة الكبرى الّتي فجّرها الرّفض
حين رفض إيفان شبيغل عرض فيسبوك، لم يكن الرّفض مجرّد ضربةٍ لمارك زوكربيرغ، بل صفعةً لأعراف وادي السّيليكون نفسه.
ثلاثة مليارات دولارٍ نقداً، لشركةٍ لم تتجاوز عامها الثّاني، بلا أرباح، وبمنتجٍ قابلٍ للتقليد، لقد تجاوز شبيغل منطق الأرقام، وراهن على المستقبل… لكن أيّ مستقبلٍ كان يراه؟
بدأت التساؤلات تتصاعد، في الصّحافة، وفي أوساط المستثمرين، وحتّى بين المؤسّسين الشّباب نفسهم:
- لماذا قد يرفض شابٌّ يافعٌ مبلغاً قد يضمن له حريّته الماليّة مدى الحياة؟
- هل رأى ما لا يرى؟ أم أنّه خدعته أوهام العظمة؟
- ماذا لو لم ينجح التطبيق؟ من سيحاسب على هذه "الحماقة"؟
- هل القرار نابعٌ من رؤية حقيقيّة… أم مجرّد رفضٍ غرائزيٍّ للسّلطة؟
في ذلك الوقت، لم يكن من السّهل الدّفاع عن موقف شبيغل، فيسبوك كانت في أوج قوّتها، وتمتلك تاريخاً ناجحاً من الاستحواذات، فقد صنعت من إنستغرام ظاهرةً عالميّة، واستحوذت على واتساب في صفقةٍ تاريخيّة.
أمّا سناب شات، فكان آنذاك مجرّد تطبيق محبوب بين فئةٍ عمريّة صغيرة، يرسل صوراً تختفي بعد ثوانٍ، فهل يمكن لتطبيق بهذه البساطة أن يصمد أمام آلةٍ عملاقة شهيرة مثل فيسبوك؟ وهل الرّهان على "التفرّد" يكفي وحده حين تبدأ الحرب؟
الإجابة الّتي تبدو واضحة اليوم، لم تكن واضحة حينها، لكن الأسئلة وحدها كانت كافيةً لتضع قرار شبيغل تحت المجهر ولتبدأ الرّواية الحقيقيّة لصراع الإرادة والرؤية ضدّ المال والنّفوذ [4].
ماذا لو وافق شبيغل؟
دعونا نتخيّل المشهد مرّةً أخرى بطريقةٍ مختلفةٍ عمّا جرى، ماذا لو جلس إيفان شبيغل في اجتماعٍ مع مؤسّس فيسبوك، مدّ يده عبر الطّاولة، وقبل عرض الثّلاثة مليارات؟ هل كان سيغيّر ذلك مجرى الإنترنت كما نعرفه؟
بحسب المعلومات، كان شبيغل سيحصل لوحده من الصّفقة فيما لو تمّت على أكثر من 750 مليون دولار، ومبلغٌ مشابهٌ لشريكه، وهو مبلغٌ يكفي لتحقيق أيّ طموحٍ ماليٍّ وبداية حياةٍ من الاستثمارات والراحة، و كانت فيسبوك ستحصل بالمقابل على التطبيق الأكثر جذباً للمراهقين آنذاك، لتدمجه ضمن منظومتها الواسعة جنباً إلى جنب مع إنستغرام وواتساب.
يرى مارك زوكربيرغ، أنّ سناب شات ربّما كان لينمو أسرع داخل فيسبوك، وأضاف أنّ التطبيق كان سيصل لجمهور أوسع، وتتطوّر ميزاته بشكلٍ أسرع فيما لو قبل مؤسّسوه عرض الاستحواذ.
لكن ماذا عن الهوية؟ عن الخصوصيّة؟ عن التجربة الّتي أراد شبيغل الحفاظ عليها، دون أن تختصر في ميزةٍ داخل تطبيق ضخمٍ آخر؟
السّؤال الحقيقي لم يكن: هل كانت سناب ستنمو؟ بل: أيّ نوعٍ من النمو؟ هل كانت ستحتفظ بروحها؟ أم كانت ستذوب كما ذابت تطبيقات سابقة دخلت فيسبوك… واختفت بهدوء؟
قصص الاستحواذ مليئةٌ بأمثلة متباينة، إنستغرام ازدهر تحت جناح فيسبوك، لكن بتغييرات جذريّة في توجّهه، كذلك الحال لدى واتساب الّذي كسب مليونات المستعملين، لكنّه خسر مؤسّسيه لاحقاً بسبب اختلافاتٍ بالرؤية.
فهل كان سناب ليصبح شيئاً آخر تماماً؟ أم كان سيتحوّل إلى "ميزةٍ مؤقّتة" تمتصّها خوارزمات فيسبوك؟ في الحقيقة كلّ الاحتمالات كانت واردة، لكن ما فعله شبيغل ببساطة كان رفض المسار السّهل، بكل مخاطره [5] [6].
هل كان القرار صائباً؟
مرّت أكثر من عشرة أعوامٍ منذ أن قال إيفان شبيغل "لا" لفيسبوك، ومع كلّ عامٍ جديدٍ، يتحوّل هذا القرار من مخاطرةٍ محفوفةٍ بالشّكّ… إلى لحظةٍ مفصليّةٍ في تاريخ ريادة الأعمال، لكنّ الحكم الحقيقيّ لا يبنى على الخطاب، بل على الأرقام.
في نهاية عام 2024، أعلنت شركة Snap Inc. عن نتائجها الماليّة الرّسميّة: عوائد سنويّةٌ بلغت أربعة ملايين وستمائة مليون دولارٍ، بزيادةٍ قدرها 12% مقارنةً بالعام السّابق، ووصل عدد المستخدمين النّشطين يوميّاً إلى 414 مليون مستخدمٍ، بارتفاعٍ ملحوظٍ عن السّنوات الماضية.
أمّا في الرّبع الرّابع وحده، فحقّقت الشّركة مليار وثلاثمائة وستين مليون دولارٍ من العائدات، وهو الأعلى في تاريخها [7].
هل هذه الأرقام تضاهي عمالقة التّكنولوجيا؟ بالتّأكيد لا، لكنّها تكشف عن شركةٍ نضجت، ونجت، ونمت رغم كلّ التّحدّيات، رغم كلّ محاولات التّقليد، ورغم الضّغط المتواصل من فيسبوك وغيره.
سناب شات لم تصبح الأكبر، لكنّها ظلّت مختلفةً، احتفظت بهويّتها، واستمرّت في تقديم ميزاتٍ مبتكرةٍ تخاطب فئةً عمريّةً محدّدةً بذكاءٍ، وإن كانت لم تربح الحرب الرّقميّة بالكامل، فهي بالتّأكيد لم تخسرها.
فهل كان رفض عرض فيسبوك مخاطرةً متهورةً؟ أم أنّه كان قراراً نادراً في عالمٍ يقاس غالباً بالحسابات لا بالإحساس؟ ما أثبتته السّنوات هو أنّ بعض القرارات لا تفهم في لحظتها… بل تثبت صحّتها مع الزّمن.
في ريادة الأعمال، ليس أعظم انتصارٍ أن تُشترى شركتك… بل أن تصمّم على أن تكمل الطّريق وحدك، رفض إيفان شبيغل لعرض فيسبوك لم يكن عناداً، بل يقيناً بأنّ بعض الرّؤى لا تقدّر بثمنٍ، ففي زمنٍ يباع فيه كلّ شيءٍ، قرّر أن يحتفظ بما لا يشترى: الثّقة، والهويّة، والإيمان بما سيكون.
أحياناً، الشّجاعة لا تكون في القفز نحو الفرصة… بل في التّراجع عنها، حين تعرف أنّ ما تبنيه أعظم ممّا يعرض عليك.