الرئيسية التنمية التوظيف القائم على التحديات: حين تتجاوز الكفاءة الورق!

التوظيف القائم على التحديات: حين تتجاوز الكفاءة الورق!

في ظلّ وفرة المواهب الشّابة بمنطقة الشرق الأوسط، تظهر أدوات التّقييم التّفاعليّة كحلٍّ بديلٍ للأنظمة التّقليديّة التي لم تَعُد تُنصف المتقدّمين من دون خبرةٍ مسبقةٍ

بواسطة فريق عربية.Inc
images header

هذا المقال متوفّرٌ باللّغة الإنجليزيّة هنا.

ما إن تخطو إلى داخل أيّ جامعة في الشرق الأوسط، حتى يلفتك ذلك الحماس المتّقد في عيون الطّلاب الأذكياء الطّموحين، يتردّد على ألسنتهم سؤالٌ واحدٌ بصوتٍ جماعيٍّ يكاد يُسمع: كيف أبدأ مسيرتي المهنيّة من دون أي خبرةٍ سابقةٍ؟ سؤالٌ مشروعٌ بكل المقاييس، لكنّ سوق العمل، حتّى اللّحظة، لم يُقدّم له إجابةً تُرضي الطّموح أو تُنصف الواقع.

فرغم أنّ منطقتنا تحتضن واحدةً من أصغر الفئات العمريّة في العالم من حيث متوسّط السّنّ، ورغم وفرة الكفاءات والقدرات الواعدة، إلّا أنّ الآليّات المعتمدة لاكتشاف هذه المواهب لا تزال عالقةً في الماضي؛ فما زلنا نفرز المتقدّمين عبر سير ذاتية، وننشر الفرص عبر مواقع وظائف وبواباتٍ إلكترونيّةٍ وُضعت في زمنٍ كانت فيه الشّهادة الجامعيّة وبعض الخبرة التّدريبيّة كفيلةً بفتح الأبواب. ولكن ذلك الزّمن قد ولّى، ومعه ولّت فاعليّة تلك الأدوات الّتي لم تَعُد تعكس واقع التّحديّات أو متطلّبات المهارات في يومنا هذا.

المشكلة ليست في الأشخاص، بل في الآلية

لا تزال الغالبيّة العظمى من الشّركات تُقيّم المتقدّمين إلى الوظائف باستخدام أدواتٍ تقليديّةٍ لا تنصف الموهبة الكامنة؛ فالسّيرة الذّاتيّة تُفحص بعنايةٍ بحثاً عن كلماتٍ مفتاحيّةٍ، والخبرة تُوزن بعدد السّنوات، لا بجودة الإنجاز. نتيجةً لذلك، فإنّ من يقف على أعتاب بدايته المهنيّة غالباً ما يُقصى من السّباق قبل أن يُلقى نظرةً حتّى على اسمه.

وما يُثير القلق أنّ هذا الإقصاء لا يبعث على الإحباط فقط، بل يكشف عن خللٍ جوهريٍّ في عدالة الفرص؛ فكثيرٌ من الشّباب اليوم لا تنقصهم الكفاءة أو المبادرة، إذ قادوا فرقاً طلابيّةً، وابتكروا مشاريع مستقلّةً، وأسهموا في أعمالٍ حقيقيّةٍ عبر منصّات الإنترنت، إلّا أنّ هذه الإنجازات -لكونها لا تتّخذ الشّكل المعهود في قوالب التّوظيف التّقليديّة- تُغفل أو تُهمّش ببساطةٍ.

وهنا تتعقّد المشكلة، إذ تقع فرق التوظيف في حيرةٍ من أمرها، تتخبّط في محاولات التّمييز بين من يستحقّ ومن لا، في ظلّ أدواتٍ لا تقيس ما يجب قياسه. والنتيجة؟ مواهبٌ واعدةٌ تُهمل، وفرصٌ حقيقيّةٌ تضيع.

- فما هو البديل؟

من بين الأفكار الّتي بدأت تفرض حضورها بقوّةٍ في مشهد التوظيف الحديث تبرز فكرة "التوظيف عبر التحديات" أو ما يُعرف بـ "التقييم الوظيفي القائم على التحديات" (Gamified Hiring)، كأحد الحلول الواعدة لتجاوز محدوديّات أنظمة التّوظيف التّقليديّة. ولا يعني هذا أنّ الشّركات تحوّل عمليّة التّوظيف إلى لعبةٍ للتسلية أو التّرفيه، بل إنّها تستعين بتحديّاتٍ تفاعليّةٍ مُصمَّمةٍ بعنايةٍ لرصد كيف يُفكّر المرشّحون ويتصرّفون في مواقف واقعيّةٍ، بعيداً عن الأقوال والادّعاءات النّظريّة.

فبدلاً من مطالبة المتقدّم بسرد قائمةٍ من المهارات على ورقةٍ، يُمنَح الفرصة لإثباتها في سياقٍ عمليٍّ يحاكي الواقع، إذ تخيّل مثلاً موقفاً يُطلب فيه من المرشّح تهدئة عميلٍ غاضبٍ، أو التّوسّط لحلّ خلافٍ بين أفراد الفريق؛ فالطّريقة الّتي يتعامل بها مع مثل هذا الموقف تكشف الكثير، وبصورةٍ أصدق، من أيّ خطابٍ تعريفيٍّ مصقولٍ أو سيرةٍ ذاتيّةٍ منمّقةٍ.

وما يميّز هذه الأدوات أنّها لا تصبّ في مصلحة صاحب العمل فقط، بل تنصف المرشّحين أيضاً؛ فهي تُتيح لهم منصّةٌ لإثبات كفاءاتهم ومهاراتهم الفعليّة، حتّى إن لم يحملوا في جعبتهم خبراتٍ موثّقةً أو خلفياتٍ مهنيّةً تقليديّةً؛ إنّها تُعيد تعريف "الفرصة العادلة"، بعيداً عن سطوة الشّبكات والعلاقات.

لماذا يناسب هذا النموذج منطقتنا الآن؟

تمرّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمرحلةٍ محوريّةٍ واستثنائيّةٍ، إذ يقف على عتبة سوق العمل جيلٌ واسعٌ من الشّباب الطّموح، المدفوع بالرّغبة في إثبات الذّات وبناء المستقبل. في المقابل، يعاني أصحاب العمل من معضلةٍ متكرّرةٍ: وفرة المتقدّمين، يقابلها ندرةٌ في من يملكون المهارات العمليّة والتّفكير الملائم لعصرٍ يتطلّب مرونةً وابتكاراً.

في هذا السّياق، تبرز أدوات التقييم الوظيفي القائم على التحديات كجسرٍ حقيقيٍّ لسدّ هذه الفجوة بين الطّموح والفرصة؛ فالمنطقة تشهد بالفعل موجةً من الاستثمارات الطّموحة في التّعليم الرّقميّ، والابتكار، وإعادة تشكيل الأنظمة التّعليميّة. كما تتحرّك دولٌ، مثل: الإمارات والسعودية، بثقةٍ نحو بناء اقتصادٍ معرفيٍّ يُواكب المستقبل، وتُهيّئ مجتمعاتها للمرحلة القادمة من التّحوّل الرّقميّ والاقتصاديّ. ولكن هذا التقدّم، مهما بلغ من قوّةٍ، قد لا يؤتي ثماره الكاملة ما لم يُواكبه تطوّرٍ موازٍ في أساليب التوظيف.

تنسجم الأدوات التّفاعليّة، المستندة إلى التّقييم العمليّ، بطبيعتها مع نبض الشّركات النّاشئة وثقافة الابتكار المتنامية في المنطقة؛ فهي تمنح الشّركات الصّغيرة، الّتي تُجبرها التّحديّات على اتّخاذ قرارات توظيفٍ سريعةٍ ومحسوبةٍ، وسيلةً فعّالةً لرؤية ما هو أبعد من السيرة الذاتية، وسيلةٌ تُظهِر من يستطيع التّنفيذ فعلاً، لا من يُجيد القول فقط.

الشركات الكبرى ستستفيد أيضاً

وليس هذا النّهج المبتكر حكراً على الشركات الناشئة وحدها، بل يحمل في طيّاته قيمةً كبيرةً أيضاً للكيانات الكبرى الّتي تتعامل مع آلاف الطّلبات الوظيفيّة في كلّ دورة توظيفٍ؛ فبدلاً من اللّجوء إلى التّصفيات الميكانيكيّة الّتي تُقصي المرشحين بسبب تنسيقٍ غير دقيقٍ أو غياب كلمةٍ مفتاحيّةٍ، يُمكن اعتماد أدوات التقييم التفاعلي لمنح كل متقدّمٍ فرصةً متساويةً لإبراز طريقة تفكيره وقدرته الحقيقيّة على التّعامل مع التّحديّات؛ إنّها تحوّل عملية التوظيف من مرحلة غربلةٍ شكليّةٍ إلى تجربةٍ عادلةٍ تقيس الأداء والسّلوك والمرونة العقليّة، لا مجرّد القوالب والعبارات المنمّقة.

أمّا بالنّسبة للجامعات أو المؤسّسات الحكوميّة الّتي تُشرف على برامج التوظيف وتمكين الشّباب، فإنّ هذا الأسلوب يمثّل جسراً حقيقيّاً بين التّعليم وسوق العمل؛ فهو لا يكتفي بمنح الطّالب شهادةً تُثبت اجتيازه للمقرّرات، بل يزوّده بأداةٍ عمليّةٍ تكشف له مكامن قوّته، وطريقة تفاعله مع المواقف، والجوانب الّتي تحتاج إلى تطويرٍ.

بهذا، يتحوّل التّقييم من مجرّد أداةٍ للفرز، إلى بوابةٍ لفهم الذّات وبناء المهارات، ممّا يُعزّز فرص التّوظيف ويُمهّد لانتقالٍ سلسٍ من مقاعد الدّراسة إلى ميادين العمل.

نقاط يجب الانتباه لها

وكما هو الحال مع أيّ نظام تقييمٍ، فإنّ التقييم الوظيفي القائم على التحديات لا بدّ أن يُبنى بمنتهى الدّقة والوعي؛ فلا يجوز أن ينحاز لنمط شخصيّةٍ معيّنٍ، أو يُكافئ نوعاً واحداً من التّفكير على حساب التّنوّع البشريّ، بل ينبغي أن يكون هذا الأسلوب شاملاً من النّاحية الثّقافيّة، مرناً في احتضان أنماط التّواصل المختلفة، ومُصمّماً ليكون سهل الاستخدام، واضحاً في أهدافه، ويُقدّم تغذيةً راجعةً صادقةً وبنّاءةً لكلّ من يخوضه.

- فما الفائدة من أداة تقييمٍ تُربك المرشّح أو تعكس صورةً مشوّهةً عن أدائه؟

ومع ذلك، فإنّ التّحدّي الأكبر لا يكمن في صقل هذه الأدوات، بل في الجمود الّذي يُكبّل الأنظمة الحاليّة، والخطر الحقيقيّ هو أن نواصل الاعتماد على وسائل تقليديّةٍ عفى عليها الزّمن، نُقيّم بها أجيالاً جديدةً بمقاييس لا تُنصفهم.

وكلّما أصررنا على استخدام تلك الأدوات البالية، زاد عدد المواهب الّتي تتسّرب من بين أيدينا. ليس لأنّ شبابنا يفتقرون إلى الذّكاء أو الطّموح، بل لأنّنا ببساطةٍ لا نمنحهم البيئة العادلة الّتي تعكس قدراتهم الحقيقيّة. في نهاية المطاف، الخطأ ليس فيهم، بل في المعايير الّتي نقيسهم بها.

- ماذا بعد؟

تلوح في الأفق فرصةٌ حقيقيّةٌ أمام الشّركات في الشرق الأوسط لتكون في طليعة هذا التّحوّل الجوهريّ في مفاهيم التّوظيف؛ فلسنا مضطرّين لاستنساخ نماذج مستوردةٍ لا تُلامس واقعنا، بل لدينا القدرة، والإرادة، والمعرفة لنُعيد صياغة أنظمة التّوظيف بما يتماشى مع نسيجنا الاجتماعيّ، وطبيعة اقتصادنا، وطموحات مجتمعاتنا.

يُمثّل التقييم الوظيفي القائم على التحديات خطوةً واعيةً في هذا المسار. قد لا يكون النّظام المثاليّ، لكنّه عمليٌّ، واقعيٌّ، ويُبرهن فعاليّته بالفعل في مساعدة بعض الشّركات على كسر قيود السيرة الذاتية التّقليديّة، والولوج إلى جوهر الكفاءة البشريّة.

السّؤال المحوريّ لم يَعُد: "أين درست؟" بل تحوّل إلى: "كيف تتعامل مع التّحديات؟" وإذا استطعنا، كأصحاب عمل ومؤسّسات، أن نجيب عن هذا السّؤال بصدقٍ وشفافيّةٍ، فإنّنا لا نبني فرقاً أكثر كفاءةً فحسب، بل نُؤسّس لاقتصادات أكثر صلابةً واستدامةً. لأنّ الإنسان، في نهاية المطاف، ليس مجرّد وثيقةٍ أو سيرةٍ ذاتيّةٍ، بل كيانٌ حيٌّ يحمل فكراً، ومرونةً، وقدرةً على التّعلّم والتّكيّف. وحان الوقت لأن تُدرك أنظمة التّوظيف هذه الحقيقة، وتُجسّدها في كلّ مرحلةٍ من مراحل التّقييم والاختيار.

عن الكاتب

التوظيف القائم على التحديات: حين تتجاوز الكفاءة الورق!

ديميتري زايتسيف هو المؤسّس والرّئيس التّنفيذيّ لشركة "دانديليون سيفيلايزيشن" (Dandelion Civilization)، وهي شركةٌ مقرّها دبي متخصّصةٌ في تطوير أدوات التّقييم السّلوكيّ والتّحليل الرّقميّ للقوى العاملة المستقبليّة. يركّز في عمله على مساعدة الشّباب في العثور على فرص عملٍ هادفةٍ، عبر أنظمةٍ تقيس أساليب التّفكير واتّخاذ القرار والعمل الجماعيّ. وهو رائد أعمالٍ متسلسلٌ يتمتّع بخبرةٍ تزيد عن عقدين في الابتكار الثّقافيّ والاقتصاديّ، ويكتب بانتظامٍ حول توظيف الشّباب، والمهارات النّاعمة، ومستقبل التّوظيف.

تابعونا على قناتنا على واتس آب لآخر أخبار الستارت أب والأعمال
زمن القراءة: 7 دقائق قراءة
آخر تحديث:
تاريخ النشر: