ما علاقة ضعف الدولار الأمريكي بارتفاع الطلب على الذهب؟
وما الذي يدفع البنوك المركزيّة وصناديق الثروة إلى إعادة ترتيب احتياطاتها؟ وهل على روّاد الأعمال والمستثمرين الأفراد أن يتصرّفوا بالمثل؟ هذه ليست أزمة عابرة... بل إشارة تحوّل.

منذ مطلع عام 2025، واجه الدّولار الأمريكيّ واحدةً من أكثر الفترات حساسيّةً في تاريخه الحديث. الأمر بدأ عندما قامت وكالات التّصنيف الائتمانيّ العالميّة مثل (Moody’s) بخفض التّصنيف الائتمانيّ للولايات المتّحدة من (Aaa) إلى (Aa1). هذه الخطوة أشعلت موجة قلقٍ في الأسواق العالميّة، حيث تعني عمليّاً أنّ المستثمرين لم يعودوا يرون الدّولار كعملةٍ خارقة الأمان بلا منازعٍ [1].
لكنّ ما معنى ذٰلك لرائد الأعمال العربيّ أو حتّى للمستثمر العاديّ؟ ببساطةٍ: عندما يضعف الدّولار، تقلّ القوّة الشّرائيّة لأيّ مدّخراتٍ أو استثماراتٍ مسعّرةٍ به، وخصوصاً في الدّول الّتي ترتبط عملتها
بالدّولار أو تعتمد عليه في استيراد معظم احتياجاتها. مثلاً، إذا كان لديك احتياطيٌّ نقديٌّ أو أرباحٌ محفوظةٌ بالدّولار، فإنّ تراجع قيمة الدّولار عالميّاً يعني أنّك في الواقع "تخسر" جزءاً من هٰذه الثّروة حتّى دون أن تلاحظ مباشرةً. في المقابل، عندما يلجأ المستثمرون حول العالم للذّهب كملاذٍ بديلٍ عن الدّولار، يتسبّب ذٰلك في رفع الطّلب على الذّهب، ممّا يؤدّي بدوره إلى رفع السّعر.
هٰذا الأمر لم يقتصر على الأفراد، بل طال حتّى البنوك المركزيّة الخليجيّة وصناديق الثّروة السّياديّة. ففي الوقت الّذي بدأت فيه دولٌ كبرى تخشى من تراجع الدّولار، سارعت صناديق السّيادة السّعوديّة والإماراتيّة والقطريّة إلى زيادة حصّتها من الذّهب في احتياطيّاتها النّقديّة [2].
ولهٰذا نرى تقارير دوريّةً حول شراء كمّيّاتٍ ضخمةٍ من الذّهب من قبل تلك المؤسّسات، في محاولةٍ للحفاظ على القوّة الشّرائيّة للاحتياطات الوطنيّة من جهةٍ، وتنويع مصادر الأمان الماليّ من جهةٍ أخرى.
ليس ذٰلك فحسب، بل إنّ ضعف الدّولار انعكس على تكلفة الواردات والموادّ الخام، إذ أصبحت الشّركات في المنطقة تجد نفسها تدفع مبالغ أعلى مقابل استيراد التّكنولوجيا أو السّلع من الخارج. ولذٰلك، أصبحت سياسة التّحوّط بالدّولار والذّهب معاً ضرورةً استراتيجيّةً للشّركات النّاشئة والمؤسّسات الكبرى على حدٍّ سواءٍ، حيث باتت تنوّع بين الأصول الماليّة لتخفيف أثر أيّ صدمةٍ مستقبليّةٍ في سوق العملات العالميّة.
ولو أردنا ربط هٰذا الواقع بحياة روّاد الأعمال: تخيّل أنّ لديك متجراً إلكترونيّاً تشتري منتجاته من الصّين أو أوروبّا وتدفع بالدّولار. إذا ضعف الدّولار فجأةً، تصبح فاتورتك أغلى (بالرّيال أو الدّرهم)، وفي الوقت نفسه، لو أنّك احتفظت بجزءٍ من رأس المال بالذّهب، قد توازن خسارتك في الصّرف بربحٍ في قيمة الذّهب.
كلّ هٰذه المعطيات جعلت الذّهب يواصل ارتفاعه في 2025 مع كلّ خبرٍ سلبيٍّ يصيب الدّولار، ومع كلّ توقّعٍ جديدٍ يشير لاحتمال استمرار تراجع العملة الأمريكيّة [3].
التوترات الجيوسياسية وسلاسل الإمداد: كيف تصنع الأزمات موجات شراء الذهب؟
في عام 2025، برزت التّوتّرات الجيوسياسيّة كعاملٍ رئيسيٍّ قلب موازين أسواق الذّهب العالميّة. لم يعد الحديث مقتصراً على حروب العملات أو النّزاعات التّجاريّة، بل أصبحنا نرى تأثير الأزمات المباشرة في ممرّات التّجارة الدّوليّة، وأبرز مثالٍ على ذٰلك ما حدث في البحر الأحمر هٰذا العام.
بدأت الأزمة مع تصاعد الهجمات على سفن الشّحن في مضيق باب المندب ومناطق قريبةٍ من قناة السّويس، ممّا اضطرّ شركات النّقل البحريّ العالميّة إلى تغيير مسارات السّفن بعيداً عن أقصر طريقٍ يربط آسيا بأوروبّا والخليج. هٰذه التّحوّلات أدّت إلى زيادةٍ فوريّةٍ في تكاليف الشّحن البحريّ، حيث وصل متوسّط تكلفة شحن الحاوية (40 قدماً) إلى 3,798 دولاراً في الرّبع الأوّل من 2025، وهو أعلى بحوالي 924 دولاراً من متوسّط السّنوات العشر السّابقة [4].
لم يقتصر الأثر على أسعار الشّحن فقط، بل تسبّبت هٰذه الأزمات أيضاً في تأخير سلاسل الإمداد العالميّة، ورفعت تكاليف استيراد الموادّ الخام والسّلع النّهائيّة إلى منطقة الخليج وشمال أفريقيا. عندما تتأخّر الشّحنات أو ترتفع تكلفتها بشكلٍ مفاجئٍ، تبدأ الشّركات بمراجعة خططها الماليّة، ويحاول المستثمرون إيجاد ملاذاتٍ آمنةٍ تحمي أموالهم من أيّ هزّةٍ إضافيّةٍ. هنا يظهر الذّهب كخيارٍ طبيعيٍّ لا يتأثّر مباشرةً بطرق الشّحن أو الأزمات الجيوسياسيّة مثل العملات الورقيّة أو الأسهم.
وحتّى الشّركات الّتي لا تتاجر بالذّهب بشكلٍ مباشرٍ تأثّرت بهٰذه الأحداث. فعلى سبيل المثال، شركات التّصنيع في السّعوديّة والإمارات اضطرّت إلى دفع مبالغ إضافيّةٍ للحصول على الموادّ الخام، وبعضها اضطرّ إلى نقل خطوط الإنتاج أو البحث عن مورّدين جددٍ من مناطق أقلّ تأثّراً بالأحداث. هٰذا الواقع دفع حتّى الشّركات غير التّقليديّة—كتلك العاملة في التّكنولوجيا أو الأغذية أو اللّوجستيّات—للاحتفاظ بجزءٍ من السّيولة بالذّهب كنوعٍ من التّحوّط ضدّ أيّ اضطرابٍ جديدٍ.
وفي الوقت ذاته، لعبت الأخبار السّياسيّة دوراً بالغ التّأثير. فعندما انتشرت تقارير عن إغلاقٍ مؤقّتٍ لبعض الموانئ، أو تحذيراتٍ من هيئات النّقل الدّوليّة، شهدت أسواق الذّهب ارتفاعاتٍ مفاجئةً في حجم التّداول والسّعر. واللّافت هنا أنّ موجات الشّراء لم تكن محصورةً في الأسواق الغربيّة، بل شملت بنوكاً مركزيّةً خليجيّةً وآسيويّةً عزّزت من مشترياتها لتقليل المخاطر على احتياطيّاتها.
لتقريب الصّورة أكثر: تخيّل أنّك تدير شركةً ناشئةً تعتمد على استيراد قطعٍ إلكترونيّةٍ من آسيا لتجميعها في مصنعٍ محلّيٍّ وتوزيعها في الخليج. إذا تأخّرت الشّحنة أسبوعين بسبب أزمةٍ في البحر الأحمر، أنت ملزمٌ بتأجيل التّسليم لعملائك، وقد تتكبّد غراماتٍ أو تخسر عقوداً مستقبليّةً. هٰذا القلق اليوميّ يدفع الكثيرين لتوزيع المخاطر الماليّة بين الدّولار والذّهب، وفي بعض الحالات، التّحوّل الجزئيّ نحو مخزونٍ فعليٍّ من المعدن النّفيس.
تزايد الطّلب على الذّهب نتيجة هٰذه الأزمات أدّى إلى موجات ارتفاعٍ متتاليةٍ في السّعر. ومع كلّ بيانٍ جديدٍ عن تفاقم التّوتّر في أحد الممرّات البحريّة، ترتفع الأسعار مباشرةً، ويسجّل السّوق قفزاتٍ يوميّةً في التّداول. وهٰذا ما حدث تحديداً في أبريل 2025، عندما ارتفعت أسعار الذّهب بأكثر من 390 دولاراً في شهرٍ واحدٍ، مع تزايد الشّحنات المؤجّلة والخسائر التّجاريّة حول العالم [5] .
لماذا يقود التضخّم موجة الذهب؟
شهد العالم في 2025 استمراراً لموجة التّضخّم الّتي بدأت في أعقاب جائحة كوفيد-19 وتصاعدت لاحقاً بفعل التّوتّرات التّجاريّة واضطرابات الإمداد العالميّ. لم يعد التّضخّم ظاهرةً مقتصرةً على الاقتصادات النّامية أو الأسواق الهشّة، بل امتدّ إلى دول الخليج الغنيّة والمستقرّة ماليّاً، وأثّر بشكلٍ مباشرٍ على موازنة الأسر والشّركات على حدٍّ سواءٍ.
في الإمارات مثلاً، ارتفع معدّل التّضخّم السّنويّ إلى 2.79% في مارس 2025 [6]، وهو معدّلٌ يعتبر معتدلاً مقارنةً ببعض الدّول الأخرى، لكنّه يظلّ مؤثّراً إذا علمنا أنّ أسعار بعض السّلع الأساسيّة والخدمات ارتفعت بنسبٍ أعلى بكثيرٍ من المعدّل العامّ، خصوصاً الموادّ الغذائيّة والطّاقة والإيجارات. وهٰذا جعل الكثير من الأسر والشّركات يبحثون عن حلولٍ عمليّةٍ لحفاظ قيمة مدّخراتهم من التّآكل.
من جهةٍ أخرى، أظهر تقرير صندوق النّقد الدّوليّ في أبريل 2025 أنّ التّضخّم العالميّ ما يزال بعيداً عن أهداف الاستقرار النّقديّ الّتي وضعتها أغلب البنوك المركزيّة، خصوصاً في ظلّ استمرار الحروب التّجاريّة بين الولايات المتّحدة والصّين، وارتفاع تكاليف النّقل والشّحن على مستوى العالم [7]. ويشير التّقرير إلى أنّ التّضخّم سيظلّ فوق مستويات 3% في معظم اقتصادات العالم حتّى نهاية 2025.
عندما ترتفع الأسعار بوتيرةٍ أسرع من نموّ الدّخل، يخشى النّاس فقدان قوّتهم الشّرائيّة، ويصبح الادّخار بالعملات المحلّيّة أو حتّى بالدّولار أقلّ جاذبيّةً، لأنّ قيمة النّقود قد تتآكل تدريجيّاً مع الوقت. هنا يعود الذّهب إلى الواجهة، إذ ينظر إليه كـ"مخزنٍ للقيمة" يحافظ على قوّته الشّرائيّة في أوقات التّضخّم. وهٰذا ما لاحظه الكثير من المستثمرين الأفراد والمؤسّسات الكبيرة، فزاد الطّلب على الذّهب في البورصات والصّناديق الاستثماريّة وحتّى في عمليّات الشّراء الفعليّ في محالّ الذّهب.
التّضخّم دفع أيضاً الشّركات النّاشئة وروّاد الأعمال للبحث عن أدواتٍ ماليّةٍ أكثر أماناً. بعض الشّركات المتخصّصة في الخدمات الماليّة الرّقميّة بدأت تعرض لعملائها منتجات ادّخارٍ أو محافظ استثماريّةٍ مرتبطةٍ بسعر الذّهب، بحيث تضمن لهم عائداً أكثر استقراراً من مجرّد الاحتفاظ بالنّقد.
ولفهم أثر التّضخّم بشكلٍ مبسّطٍ، لنفترض أنّ لديك مبلغاً قدره 10,000 دولارٍ في بداية السّنة. إذا ارتفعت الأسعار بمعدّل 5% في السّنة، فهٰذا يعني أنّ ما يمكنك شراؤه في نهاية العام بهٰذا المبلغ أصبح أقلّ بنسبة 5%. أمّا إذا استثمرت جزءاً من مدّخراتك في الذّهب، وارتفع سعر الذّهب بنسبة 10% خلال نفس الفترة، فإنّ قوّتك الشّرائيّة قد تكون قد بقيت ثابتةً أو حتّى ازدادت.
كلّ ذٰلك جعل الذّهب مرّةً أخرى هو الوجهة الأولى لحفظ القيمة في 2025، خصوصاً مع ترقّب الأسواق لأيّ إشارةٍ حول تغييرات أسعار الفائدة العالميّة أو سياسات الدّعم النّقديّ للبنوك المركزيّة.
مَن يُحرّك سوق الذهب؟
من بين أهمّ القوى الدّافعة لسوق الذّهب في السّنوات الأخيرة، برز الدّور الكبير للبنوك المركزيّة وصناديق الثّروة السّياديّة حول العالم، وخصوصاً في دول الخليج وآسيا. في عام 2024 وحده، سجّلت البنوك المركزيّة رقماً قياسيّاً جديداً عندما اشترت ما مجموعه 1,045 طنّاً من الذّهب، وهي أكبر كمّيّةٍ سنويّةٍ يتمّ شراؤها منذ بدأت الإحصاءات الحديثة [8] .
في الرّبع الأوّل من عام 2025، لم تهدأ وتيرة الشّراء، بل أضافت البنوك المركزيّة عالميّاً 244 طنّاً أخرى إلى احتياطيّاتها [9]. هٰذه الأرقام تعبّر عن تغييرٍ استراتيجيٍّ في سياسات الاحتياطيّ لدى العديد من الدّول: لم يعد الذّهب مجرّد "زينةٍ" في خزائن البنوك المركزيّة، بل أصبح وسيلةً أساسيّةً للتّحوّط وتنويع المخاطر بعيداً عن الدّولار واليورو واليوان، خصوصاً في عالمٍ يتّسم بتزايد عدم اليقين السّياسيّ والاقتصاديّ.
من جهةٍ أخرى، تزامن هٰذا التّوجّه مع موجةٍ جديدةٍ من الاهتمام لدى صناديق الثّروة السّياديّة في الخليج. هٰذه الصّناديق، الّتي تدير ترليونات الدّولارات من فوائض النّفط والاستثمارات الخارجيّة، زادت من انكشافها على الذّهب خلال 2024 و2025. [10] وفقاً لتقريرٍ حديثٍ صادرٍ عن (ديلويت)، يتوقّع أن ترتفع أصول الصّناديق السّياديّة الخليجيّة إلى 18 ترليون دولارٍ بحلول 2030، مع تخصيص نسبةٍ متزايدةٍ من هٰذه الأصول للذّهب وسلعٍ استراتيجيّةٍ أخرى [11].
هٰذا التّحوّل الاستثماريّ لا يقتصر على دول الخليج فقط. فدولٌ آسيويّةٌ مثل الصّين والهند وتركيا كانت في طليعة المشترين، حيث تسعى إلى حفاظ عملاتها واحتياطاتها من أيّ تقلّباتٍ مفاجئةٍ في النّظام الماليّ الدّوليّ. إضافةً إلى ذٰلك، أصبح الذّهب جزءاً من "سلّة الأمان" لدى العديد من البنوك المركزيّة في الأسواق النّاشئة.
لماذا تسعى هٰذه الجهات لاقتناء الذّهب بهٰذا الحجم؟ هناك عدّة أسبابٍ رئيسيّةٍ:
- التّحوّط من تراجع قيمة الدّولار أو العملات الأخرى في ظلّ أزماتٍ ماليّةٍ أو سياسيّةٍ عالميّةٍ.
- الحفاظ على القدرة الشّرائيّة للاحتياطات الوطنيّة، خاصّةً مع تآكل قيمة السّندات الحكوميّة في بعض الدّول الغربيّة.
- زيادة الثّقة في الاقتصاد الوطنيّ عبر تقوية مكوّنات الاحتياطيّ الأجنبيّ بسلعٍ مادّيّةٍ لا تتأثّر بسهولةٍ بالقرارات السّياسيّة.
انعكاس كلّ ذٰلك على الأسواق كان واضحاً: كلّما أعلنت جهةٌ مركزيّةٌ أو صندوقٌ سياديٌّ عن زيادة احتياطيّاته من الذّهب، شهدت الأسواق موجة شراءٍ جديدةٍ، وارتفع السّعر بسرعةٍ. بل إنّ هناك من يعتبر أنّ سلوك البنوك المركزيّة اليوم أصبح من أهمّ المؤشّرات المسبقة لاتّجاه أسعار الذّهب عالميّاً، وهو ما لاحظه العديد من المستثمرين والمؤسّسات الماليّة في 2025.
ماذا يعني ذٰلك لروّاد الأعمال في المنطقة؟
تغيّر أسعار الذّهب، وتحرّكات الدّولار، والأزمات الجيوسياسيّة، وضغوط التّضخّم، جميعها ليست قضايا نظريّةً أو مقتصرةً على كبار المستثمرين فقط؛ بل هي مسائل تمسّ بشكلٍ مباشرٍ كلّ رائد أعمالٍ أو شركةٍ ناشئةٍ أو مؤسّسةٍ صغيرةٍ ومتوسّطةٍ في العالم العربيّ، خصوصاً في منطقة الخليج الّتي تعتمد بشكلٍ أساسيٍّ على التّجارة الدّوليّة والاستيراد.
تكاليف رأس المال وسعر الصّرف: كيف يتغيّر تمويل الشّركات في ظلّ موجة الذّهب؟
عندما يضعف الدّولار وترتفع أسعار الذّهب، يتأثّر كلّ من يعتمد على الاستيراد أو التّمويل الدّوليّ. فإذا كنت صاحب شركةٍ ناشئةٍ في الإمارات أو السّعوديّة مثلاً، وتستورد معدّاتٍ أو موادّ خامٍ من الخارج بالدّولار، فإنّ أيّ انخفاضٍ في قيمة الدّولار سيجعل فاتورتك أعلى بالعملة المحلّيّة، حتّى لو لم تتغيّر الأسعار العالميّة. كثيرٌ من الشّركات لجأ في 2025 إلى ما يسمّى بسياسات التّحوّط الماليّ:
- تنويع مصادر الاحتياطيّ النّقديّ: بعض الشركات تحتفظ بجزء من سيولتها بالدولار، وجزء آخر بالذهب (إلكترونيًّا عبر صناديق ETF أو حسابات ادخار ذهبية)، لتوازن بين تقلبات العملة وقيمة الذهب [1] [10].
- توظيف عقود التّحوّط: بدأت شركات ورواد أعمال باستخدام "العقود الآجلة" أو "العقود المستقبلية" للذهب، كأداة لحماية رأس المال من تقلبات السوق، لضمان سعر شراء ثابت مهما تغيّر السوق لاحقاً.
- نماذج تمويلٍ جديدةٌ: ظهرت شركات ناشئة تتيح للمستثمرين الحصول على عوائد "مغطاة بالذهب"، أي أن قيمة استثمارهم أو أرباحهم مرتبطة بسعر الذهب، لا العملة المحلية أو الدولار فقط [10] .
هٰذه التّحوّلات أعطت الشّركات النّاشئة الصّغيرة فرصةً للنّجاة من الصّدمات الكبرى، وأجبرت المؤسّسات الأكبر على إعادة تقييم سياساتها الماليّة بشكلٍ دوريٍّ، بدل الاكتفاء بحلولٍ تقليديّةٍ لم تعد كافيةً في عالمٍ مليءٍ بالمفاجآت الماليّة.
سلاسل الإمداد بين الاضطراب والتحوّط
سلاسل الإمداد ليست مجرّد خطوط نقلٍ من المصنع إلى السّوق؛ بل هي شريان الحياة لأيّ شركةٍ تعتمد على الاستيراد أو التّصدير. في 2025، واجهت الشّركات العربيّة تحدّياتٍ غير مسبوقةٍ بسبب أزمات البحر الأحمر وارتفاع تكاليف الشّحن العالميّ [4].
ارتفاع تكاليف الشّحن:
متوسّط تكلفة شحن الحاوية (40 قدماً) ارتفع إلى 3,798 دولاراً في الرّبع الأوّل من 2025، وهو رقمٌ ضخمٌ مقارنةً بمتوسّط عشر سنواتٍ ماضيةٍ. شركات الاستيراد الصّغرى والمتوسّطة عانت من قفزاتٍ مفاجئةٍ في التّكاليف الشّهريّة، ممّا دفعها لإعادة توزيع المخزون وتقليل الاعتماد على مورّدٍ واحدٍ.
تأخيراتٌ وتغيّراتٌ في زمن التّسليم:
الأزمات السّياسيّة أو البحريّة تسبّبت في تأخيراتٍ تجاوزت أسبوعين لبعض الشّحنات، واضطرّت شركاتٌ محلّيّةٌ لتعويض العملاء أو تحمّل غراماتٍ بسبب فواتير لم تكن محسوبةً [4].
التّحوّط باستخدام الذّهب:
مع ارتفاع هٰذه المخاطر، بدأت بعض الشّركات تعتمد على نماذج "النّمذجة التّنبّؤيّة" (Predictive Analytics) لتقييم أثر كلّ أزمةٍ على المخزون وتكلفة الإنتاج، مع تخصيص جزءٍ من الاحتياطيّات بالذّهب كضمانٍ ماليٍّ للطّوارئ [10].
مثالٌ عمليٌّ: شركةٌ إماراتيّةٌ في قطاع الإلكترونيّات كانت تستورد مكوّناتٍ دقيقةً من شرق آسيا. عندما حدثت أزمةٌ في البحر الأحمر في مارس 2025، اضطرّت لدفع تكاليف شحنٍ مضاعفةٍ وتحمّل خسارة أرباح شهرٍ كاملٍ. بعد الأزمة، قرّرت الشّركة تخصيص 10% من أرباحها الشّهريّة لشراء ذهبٍ بشكلٍ منتظمٍ عبر صندوقٍ استثماريٍّ متخصّصٍ، تحسّباً لأيّ أزمةٍ مستقبليّةٍ مفاجئةٍ.
التّنوّع القطاعيّ والفرص الاستثماريّة: من التّدوير إلى الفنتك
ليس كلّ التّحوّل نحو الذّهب مرتبطاً بالخوف أو الحذر فقط؛ بل هناك فرصٌ حقيقيّةٌ لروّاد الأعمال والشّركات النّاشئة للاستفادة من هٰذا الواقع الجديد:
شركات إعادة التّدوير للمعادن النّفيسة
في دبي والرّياض بدأت شركاتٌ ناشئةٌ متخصّصةٌ في تدوير الذّهب والمجوهرات القديمة بجذب تمويلاتٍ جديدةٍ من مستثمرين يريدون تحويل الذّهب غير المستغلّ إلى منتجاتٍ جديدةٍ أو سيولةٍ نقديّةٍ.
المنتجات الادّخاريّة الرّقميّة
منصّات الادّخار الرّقميّة أصبحت تقدّم منتجاتٍ مثل "حساب ذهبٍ إلكترونيٍّ"، بحيث يمكن لأيّ شخصٍ فتح حسابٍ يوفّر له عوائد متغيّرةً مرتبطةً بسعر الذّهب العالميّ، دون الحاجة لشراء أو تخزين الذّهب بشكلٍ فعليٍّ [10].
الفرص في التّكنولوجيا الماليّة (FinTech)
ظهرت شركاتٌ متخصّصةٌ في توفير حلول دفعٍ وتحويل أموالٍ مغطّاةٍ بالذّهب، تتيح للعملاء إرسال واستلام أموالهم بناءً على سعر الذّهب لحظيّاً، وهٰذا خفّض من مخاطر تقلّب العملة على التّحويلات الدّوليّة، خصوصاً في عالم الشّركات النّاشئة العابرة للحدود.
حتّى قطاع التّصنيع التّقليديّ استفاد، حيث لجأت شركاتٌ كبرى لإدراج الذّهب ضمن خطط المكافآت أو التّحفيز السّنويّ للموظّفين، كوسيلةٍ لتعزيز الولاء وضمان حفظ دخل الموظّف من التّضخّم أو تقلّب العملات.
مقارنة الذّهب بالأصول الأخرى: عوائد طويلة الأجل وأدوارٌ مختلفةٌ
قد يتساءل القارئ: هل الاستثمار في الذّهب مربحٌ دائماً؟ هل هو أفضل من الأسهم أو العقارات أو أدوات الدّين؟ تتطلّب الإجابة الدّقيقة العودة إلى البيانات التّاريخيّة والمقارنة الموضوعيّة بين الأصول، مع فهم طبيعة كلّ فئةٍ استثماريّةٍ ودورها في المحفظة الماليّة.
أداء الذّهب خلال نصف قرنٍ:
عند النّظر إلى أداء الذّهب خلال الخمسين عاماً الأخيرة (1975–2025)، نجد أنّ متوسّط العائد السّنويّ المركّب للذّهب بلغ حوالي 7.8% سنويّاً [12].
هٰذا الرّقم يشمل فتراتٍ شهدت أزماتٍ اقتصاديّةً كبرى، وحروباً، وفترات هدوءٍ وازدهارٍ اقتصاديٍّ، ممّا يؤكّد قدرة الذّهب على البقاء أصلاً يحفظ القيمة في الظّروف الصّعبة.
المقارنة مع سوق الأسهم الأمريكيّة (S&P 500):
مؤشّر (S&P 500) هو أحد أبرز مؤشّرات الأسهم في العالم، ويمثّل أفضل 500 شركةٍ أمريكيّةٍ كبرى. خلال نفس الفترة، سجّل المؤشّر عائداً سنويّاً مركّباً يزيد على 11% [13]. أي أنّ الاستثمار في الأسهم على المدى الطّويل يمنح نموّاً رأسماليّاً أسرع من الذّهب، لكنّه يأتي مع تقلّباتٍ ومخاطر أعلى، خصوصاً في فترات الأزمات.
جدول مقارنة العوائد (1975–2025):
الأصل | العائد السّنويّ المتوسّط (%) | فترات الخسارة | طبيعة الدّور |
---|---|---|---|
الذّهب | 7.8% | محدودةٌ وقصيرةٌ | حفظ قيمةٍ، تحوّطٌ |
S&P 500 | 11.2% | مرّتان: الأزمات الكبرى | نموٌّ رأسماليٌّ، مخاطر أعلى |
العقارات (أمريكا) | 5.2% | قليلةٌ | استقرارٌ نسبيٌّ، حمايةٌ من التّضخّم |
أدوات الدّين (سندات 10 سنواتٍ) | 4.1% | شبه معدومةٍ | دخلٌ ثابتٌ، أقلّ مخاطر |
سيناريوهات أسعار الذّهب حتّى نهاية 2025
نظراً لتقلّب الأسواق وصعوبة التّنبّؤ بالمستقبل الماليّ، اعتمدت المؤسّسات الماليّة والاقتصاديّة الكبرى في 2025 على رسم سيناريوهاتٍ متعدّدةٍ لمسار أسعار الذّهب في الشّهور القادمة، بناءً على مجموعةٍ من الافتراضات المتعلّقة بالاقتصاد العالميّ، وأسعار الفائدة، وسلوك البنوك المركزيّة، وأثر الأزمات الجيوسياسيّة.
السّيناريو الأوّل: استمرار التّحوّط القويّ
- الوصف: تستمرّ التّوتّرات الجيوسياسيّة، ويظلّ الدّولار الأمريكيّ ضعيفاً، وتواصل البنوك المركزيّة شراء الذّهب بمعدّلاتٍ مرتفعةٍ تتجاوز 800 طنٍّ إضافيٍّ هٰذا العام.
- السّعر المتوقّع للأونصة: 3,600 – 3,800 دولارٍ.
- الأثر: يبقى الذّهب في حالة صعودٍ مدعومٍ بالطّلب المؤسّسيّ، وقد يشهد ذروةً جديدةً إذا تصاعدت الأزمات أو زادت الضّغوط التّضخّميّة عالميّاً.
السّيناريو الثّاني: تهدئةٌ تجاريّةٌ وسياسيّةٌ
- الوصف: تحدث انفراجاتٌ جزئيّةٌ في النّزاعات التّجاريّة، خصوصاً بين أمريكا والصّين، ويعود الاستقرار تدريجيّاً إلى الأسواق، بينما تبدأ تكاليف الشّحن بالانخفاض ويستعيد الدّولار بعض قوّته.
- السّعر المتوقّع للأونصة: 3,000 – 3,200 دولارٍ.
- الأثر: تستقرّ أسعار الذّهب أو تنخفض قليلاً، ويعود الطّلب الفرديّ والمضاربات إلى الواجهة مع ضعف موجة التّحوّط الجماعيّ.
السّيناريو الثّالث: صدمة سيولةٍ عالميّةٌ
- الوصف: ترتفع أسعار الفائدة عالميّاً بشكلٍ حادٍّ بسبب ضغوطٍ اقتصاديّةٍ أو تفاقم أزمات الدّيون، فتنسحب الأموال من الصّناديق الاستثماريّة في الذّهب وتعود إلى السّندات الحكوميّة الأمريكيّة.
- السّعر المتوقّع للأونصة: أقلّ من 2,800 دولارٍ.
- الأثر: يواجه الذّهب موجة هبوطٍ سريعةٍ مع خروج المضاربين من السّوق، لكنّ البنوك المركزيّة تحتفظ باحتياطيّاتها، فيبقى الذّهب قويّاً على المدى الطّويل، ولو تراجع سعره مراحليّاً.
السّيناريو السّعر المتوقّع للأونصة الفرضيّات الرّئيسيّة
تحوّطٌ متواصلٌ 3,600 – 3,800 ضعف الدّولار، شراءٌ مؤسّسيٌّ مكثّفٌ، أزماتٌ مستمرّةٌ
تهدئةٌ تجاريّةٌ وسياسيّةٌ 3,000 – 3,200 اتّفاقاتٌ تجاريّةٌ، استقرار الأسواق، تراجع الشّراء المؤسّسيّ
صدمة سيولةٍ أقلّ من 2,800 ارتفاعٌ حادٌّ للفائدة، سحب سيولةٍ من الذّهب لصالح السّندات الحكوميّة
كيف تحوّل المعرفة إلى ميزةٍ تنافسيّةٍ؟
السّيناريو | السّعر المتوقّع للأونصة | الفرضيّات الرّئيسيّة |
---|---|---|
تحوّطٌ متواصلٌ | 3,600 – 3,800 | ضعف الدّولار، شراءٌ مؤسّسيٌّ مكثّفٌ، أزماتٌ مستمرّةٌ |
تهدئةٌ تجاريّةٌ وسياسيّةٌ | 3,000 – 3,200 | اتّفاقاتٌ تجاريّةٌ، استقرار الأسواق، تراجع الشّراء المؤسّسيّ |
صدمة سيولةٍ | أقلّ من 2,800 | ارتفاعٌ حادٌّ للفائدة، سحب سيولةٍ من الذّهب لصالح السّندات الحكوميّة |
تبيّن كلّ التّطوّرات المذكورة أنّ الذّهب لم يعد فقط ملاذاً آمناً للمستثمرين الكبار أو الأفراد الحذرين، بل أصبح عنصراً أساسيّاً في استراتيجيّات روّاد الأعمال والشّركات النّاشئة في المنطقة العربيّة.
من يراقب عن كثبٍ تحوّلات الدّولار، ويتابع تطوّرات سلاسل الإمداد والتّضخّم، ويطوّع أدوات التّحوّط الماليّ المتنوّعة (الذّهب، العملات، العقود الآجلة)، سيكون أكثر قدرةً على حماية أمواله واستثمار فرص النّموّ، حتّى في عالمٍ لا يمكن التّنبّؤ به بدقّةٍ. باختصار:
- يوفّر الذّهب الحماية من الأزمات، لكنّه ليس بديلاً عن التّنويع الذّكيّ للمحفظة الماليّة.
- أصبح الإلمام بالمتغيّرات الاقتصاديّة والسّياسيّة ضرورةً لأيّ شركةٍ أو مستثمرٍ.
- استشارة الخبراء الماليّين وتحليل البيانات الحيّة باستمرارٍ ضرورةٌ في عصر التّقلّبات السّريعة.
وهٰكذا، يبقى النّجاح في عالم المال والأعمال مرهوناً بالجمع بين الرّؤية الاستراتيجيّة واليقظة اليوميّة، وبين الذّهب، والعملات، والأسهم، تظلّ فرص المستقبل متاحةً للأذكى والأكثر استعداداً.