الرئيسية الابتكار كيف تحوّلت دُمى "Pop Mart" إلى آلة ثراء وجنون عالمي؟

كيف تحوّلت دُمى "Pop Mart" إلى آلة ثراء وجنون عالمي؟

قفزة بثروة "وانغ نينغ" وموجة عالميّة من الهوس بدُمية لا ترى شكلها مسبقاً... كيف تحوّلت دُمى الصندوق الأعمى إلى ظاهرة ماليّة غيّرت وجه التّجزئة؟

بواسطة فريق عربية.Inc
images header

في صباحٍ يومٍ من ربيع عام 2025، استيقظت الأسواق العالميّة على خبرٍ مفاده أنّ ثروة رجل الأعمال الصّيني "وانغ نينغ" (Wang Ning)، مؤسّس ورئيس شركة "بوب مارت" (Pop Mart)، قد قفزت بمقدار 1.6 مليار دولارٍ خلال يومٍ واحدٍ فقط. ليست تلك مجرّد طفرةٍ رقميّةٍ عابرةٍ، بل إشعارٌ مبكّرٌ بأنّ عالم التّجزئة التّرفيهية يعيش لحظة تحوّلٍ جذريّة، تخلط بين التّصميم والذّكاء العاطفيّ والسّلوك الاستهلاكيّ الجديد. [1] [5]

ففي خضمّ توتر العلاقات التّجارية بين بكّين وواشنطن، وبينما تتعرّج كبريات العلامات الصّينيّة داخل السّوق الأميركي بحذر، كانت Pop Mart تشقّ طريقاً معاكساً، واثقاً، وساحراً. تصدّر التّطبيق الرّسميّ للشّركة قائمة التّنزيلات على "متجر آبل" (Apple App Store) في فئة التّسوّق في الولايات المتّحدة، متفوقاً على عمالقةٍ مثل "أمازون" (Amazon) و"شي إن" (Shein). أمّا في الواقع المادّي، فقد اصطفّ عشّاق دمى الشّركة ليلاً أمام المتاجر الأميركية، من نيويورك إلى لوس أنجلوس، في طوابير طويلةٍ لشراء إصداراتٍ محدودةٍ من شخصياتٍ كرتونية تباع داخل "صناديق عمياء" (Blind Boxes).  [3] [2] [1]

وراء هذا الزّخم الجنوني يقف وانغ نينغ، ابن الـ38 عاماً، الّذي أطلق Pop Mart عام 2010 كمتجرٍ صغيرٍ لبيع المنتجات الثّقافيّة، ثم أعاد هندسة المشروع ليصبح اليوم أيقونةً تجاريةً وثقايةً تستحوذ على اهتمام الجيل Z حول العالم. وبثروةٍ تقدّر الآن بـ16.1 مليار دولار، بات نينغ ضمن قائمة أغنى رواد الأعمال في آسيا، مدفوعاً بجاذبية منتجٍ غير متوقّعٍ: دميةٍ صغيرة... لا تعرف شكلها مسبقاً. [1] [5]

بين اللّعب والرّأسمال: كيف يعمل نموذج "الصّندوق الأعمى"؟

تعتمد Pop Mart على ما يعرف بنموذج "الصّندوق الأعمى"، وهي آليّةٌ تسويقيّةٌ تقوم على عنصر المفاجأة. يشتري المستهلك صندوقاً صغيراً دون معرفة الشّخصيّة الّتي بداخله. الإصدارات محدّودةٌ، ونسب تكرار الشّخصيّات تحتسب بدقّةٍ شبه رياضيّةٍ. وبعض الشّخصيّات النّادرة تباع لاحقاً بأسعارٍ مضاعفةٍ على منصّات إعادة البيع، ما يحوّل الهواية إلى استثمارٍ، ويمنح Pop Mart بعداً يتجاوز التّسوّق التقليديّ: هوس الاقتناء والنّدرة.

يستدعي هذا النموذج محفّزاتٍ عاطفيّةً قويّةً: التّشويق، الانتماء، فومو (Fear Of Missing Out). وكلّها تغذّيها الشّركة باحترافٍ، عبر منصّاتٍ تفاعليّةٍ، ومجتمعاتٍ رقميّةٍ، وتصميماتٍ مرهفةٍ تعكس ثقافة البوب الآسيويّة المصقولة. 

يمثّل في عالم الشّركات النّاشئة، هذا النموذج مثالاً فريداً على اقتصاد التّجربة (Experience Economy): حيث لا يدفع الزّبون فقط مقابل السّلعة، بل مقابل الشّعور المرتبط بشرائها. [4]

الأسواق تتجاوب: من بكّين إلى بروكلين

قبل أن تصل Pop Mart إلى السّوق الأميركيّ، كانت قد اجتاحت بالفعل قلوب وعقول الشّباب في الصّين. الانتشار الواسع لثقافة الأنمي، والافتتان بالتّصميمات اللّطيفة (Kawaii Aesthetic)، جعل من منتجات الشّركة جزءاً من الهويّة الثّقافيّة للجيل الجديد. لكنّ التّحوّل الاستراتيجيّ بدأ حين أدركت الإدارة أنّ الأسواق الغربيّة تبحث عن تجارب مشابهةٍ، لكنّها بتغليفٍ جديدٍ.

افتتحت Pop Mart متاجرها في نيويورك، ثمّ لوس أنجلوس، ثمّ في كامبردج بالمملكة المتّحدة، مستفيدةً من صعود "ثقافة التّجميع" بين الجيل زد والألفيّة، والاهتمام المتزايد بالأشياء المحدّودة والمخصّصة.

لم يكن هذا مجرّد توسّعٍ جغرافيٍّ، بل تكيّفٌ سلوكيٌّ ذكيٌّ مع ثقافاتٍ متنوّعةٍ. فالشّركة استعانت بمصمّمين عالميّين، وأطلقت مجموعاتٍ حصريّةٍ لكلّ سوقٍ، ودمجت الواقع المعزّز داخل التّطبيق لتعزيز التّفاعل الرّقميّ. النتيجة؟ تصدّر التّطبيق في قوائم التّحميل، ونموّ في المبيعات تجاوز 100% منذ بداية العام. [2] [4]

ثروةٌ تتضاعف... وسوقٌ تشتعل

خلال الرّبع الأوّل من عام 2025، تضاعف سهم (Pop Mart) المدرج في بورصة هونغ كونغ، ليسجّل ارتفاعاً بأكثر من 100% مقارنةً ببداية العام. ويوم الإثنين 28 أبريل وحده، قفز السّهم بنسبة 13.2%، مدفوعاً بنجاحٍ تجاريٍّ باهرٍ في السّوق الأميركيّة وتدفّقٍ هائلٍ على تطبيق الشّركة. هذه القفزة السريعة أضافت 1.6 مليار دولار إلى ثروة وانغ نينغ، ليرتفع إجمالي ثروته إلى 16.1 مليار دولار بحسب تصنيف "قائمة فوربس للمليارديرات" (Forbes Real-Time Billionaires). [1] [2] [5]

لكن وراء هذه الأرقام يكمن تحوّلٌ عميقٌ: فالشّركة التي كانت تعدّ "غريبةً" على دوائر المال العالمية، أصبحت فجأةً قصّة نجاحٍ محبوبةً بين المستثمرين. من صندوقٍ مغلقٍ... إلى سهمٍ مفتوحٍ على آفاق النّمو. 

لماذا يحبّها المستثمرون؟

ثمّة ثلاث خصائص تجعل Pop Mart محطّ أنظار الأسواق اليوم:

1. اقتصاد النّدرة + الولاء العالي = أرباحٌ متكرّرةٌ

بيع منتجاتٍ بنسخٍ محدودةٍ يبقي الطّلب مشتعلاً، بينما يكرّر الزبائن الشّراء على أمل الحصول على الشّخصية المرغوبة. هذا ينتج سلوكاً استهلاكيّاً دوريّاً (Recurring Consumption) نادراً في قطاع التّجزئة غير الرّقميّ.

2. دورة حياة المنتج قصيرةٌ... لكنّها دائمة التّجدد

في حين تعاني العلامات التجارية التّقليديّة من تشبّع السّوق، تطرح Pop Mart مجموعاتٌ جديدةٌ كلّ شهرٍ، تحفّز السّوق دون استنزاف العلامة. التّصميمات تأتي من مصمّمين مستقلّين، مما يقلّل الكلفة الإبداعية ويبقي المحتوى جديداً على الدّوام.

3. تفاعلٌ رقميٌّ يتجاوز البيع

تطبيق Pop Mart ليس مجرّد متجرٍ إلكترويٍّ؛ بل مجتمعٌ رقميٌّ يضمّ قرعةً عشوائيةً، محتوىً مصوّراً، مسابقاتٍ، وتجارب واقعٍ معزّزٍ. هذا يضاعف من وقت التّفاعل ويمهّد لتوسيع نموذج الإيرادات لاحقاً. [4] [6]

ما علاقة "الذّكاء العاطفيّ" بكلّ هذا؟

نجاح Pop Mart لا يقاس فقط بعدد المبيعات، بل بالقدرة على استدعاء مشاعر. الشّركة لا تبيع دميةً فحسب، بل فكرة "أن تكون محظوظاً"، "أن تمتلك شيئاً لا يملكه غيرك"، "أن تشارك التّجربة مع غيرك عبر السوشال ميديا". هذا البعد العاطفيّ هو ما يحوّل تجربة الشّراء من قرارٍ منطقيٍّ إلى طقسٍ شبه شعائريٍّ.

وهنا يظهر التّماهي بين العلامة التجارية والجيل الجديد. فـ"جيل زد" لا يشتري بدافع الاحتياج، بل بدافع المعنى الشّخصيّ. وكلّما كانت العلامة التجارية قادرةً على بناء روابطٍ وجدانيّةٍ، كلّما رسخت في لاوعي المستهلك كمصدرٍ للبهجة، وليس فقط للمنتج. [4] [6]

التّوسّع العالميّ... ولكن بذكاءٍ جغرافيٍّ

لم تتوسّع Pop Mart عشوائيّاً. فاختيار الولايات المتحدة لم يكن فقط بسبب الحجم، بل بسبب قابلية المجتمع الأمريكيّ للتبنّي السريع للنّموذج الثقافيّ الغريب (كما حصل سابقاً مع "بوكيمون" (Pokémon) و"فونكو بوب" (Funko Pop)). السّوق الأمريكية كانت عطشى لمزيجٍ من الأصالة والتّجريب، وهو ما قدمته Pop Mart بدقّةٍ آسيويةٍ وشغف تصميميٍّ حقيقيٍّ.

المثير للاهتمام أنّ الشّركة لم تغفل الأسواق الأخرى. فتوسّعها في أوروبا الشّرقية، والمملكة المتحدة، وحتى أسواق جنوب شرقي آسيا، جاء مدعوماً بإصداراتٍ محلّيّة الطّابع، واستخدام شركاء توزيعٍ محلّيين، مع الحفاظ على جوهر العلامة. [2] [4] [6]

مخاطر النّموّ السّريع: الوجه الآخر للنّجاح

رغم الصّورة الورديّة الّتي تحيط بصعود Pop Mart، إلّا أنّ التّوسّع السّريع والثّروة المتصاعدة لوانغ نينغ يطرحان تساؤلاتٍ جدّيّةً: هل يمكن للعلامة أن تحافظ على زخمها؟ أم أنّها تعيش فقّاعةً مؤقّتةً تغذّيها موضةٌ استهلاكيّةٌ عابرةٌ؟

الأسواق الاستهلاكيّة،خاصّةً تلك القائمة على العاطفة، سريعة التّقلّب. ما يثير الحماس اليوم قد يصبح عاديّاً غداً. والأهمّ، أنّ نموذج “الصّندوق الأعمى” نفسه قد يواجه نقداً تنظيميّاً في بعض الدّول بسبب غموضه المقصود، واحتماليّة ربطه ـ"سلوكيّات الشّراء القهري"، لا سيّما بين الأطفال واليافعين.

تهديداتٌ قيد المراقبة:

1. الأنظمة والتّشريعات

تناقش الولايات المتّحدة وأوروبّا حاليّاً قوانين للحدّ من نماذج البيع الّتي تتضمّن عناصر "مقامرة" ضمن المنتجات التّرفيهيّة، كما هو الحال في "صناديق الغنائم" (Loot Box) في ألعاب الفيديو. وقد تصنّف بعض منتجات Pop Mart ضمن هذه الفئة مستقبلاً.

2. النّسخ والتّقليد

كلّما زادت شهرة العلامة، زادت محاولات التّقليد. السّوق الصّينيّ، نفسه، بات يعجّ بمنتجاتٍ مقلّدةٍ تحمل روح Pop Mart دون اسمها، ممّا يهدّد هيبة العلامة ومبيعاتها خارج السّوق الأصليّ.

3. الاعتماد على "الموجة" الثّقافيّة

رغم توسّع العلامة عالميّاً، إلّا أنّ جذورها الجماليّة، المستمدّة من ثقافة البوب الآسيويّة، قد لا تتوافق طويلاً مع أذواق كلّ الأسواق. ما قد يفرض على الشّركة إعادة تموضعٍ أو استثماراتٍ كبيرةٍ في تصميماتٍ أكثر تنوّعاً.

استراتيجيّات البقاء: Pop Mart لا تراهن على الحظّ فقط

ما يطمئن بعض المحلّلين هو أنّ Pop Mart لا تركن إلى ضربة حظٍّ عاطفيّةٍ فقط. فالشّركة تعمل بهدوءٍ على محاور متوازيةٍ لضمان الاستدامة:

  • استثمارٌ في الملكيّة الفكريّة: الشّركة تمتلك حقوقاً حصريّةً لمئات الشّخصيّات، ما يمنحها قدرةً عاليةً على حماية منتجاتها وتطوير محتوًى أصليٍّ لاحقاً (أفلامٌ، مسلسلاتٌ، ألعابٌ رقميّةٌ).

  • التّوسّع الرّقميّ: يجري العمل على تطوير نسخةٍ من التّطبيق تدعم تقنيّات NFT، بهدف تحويل مقتنيات المستخدمين إلى أصولٍ رقميّةٍ قابلةٍ للتّداول والملكيّة، وهو ما يربط تجربة اللّعب بالويب 3.0 بطريقةٍ جذّابةٍ.

  • الدّمج بين البيع والتّجربة: متاجر Pop Mart ليست فقط منافذ بيعٍ، بل مساحاتٌ تفاعليّةٌ تشبه صالات العرض. بعضها يتضمّن روبوتاتٍ مخصّصةً للتّوزيع، وتجارب واقعٍ معزّزٍ، ومساحات تصوير "إنستغراميّةٍ"، ممّا يجعل الزّيارة بحدّ ذاتها جزءاً من التّجربة.

وانغ نينغ... صانع النّدرة والمشاعر

حين نتابع مقابلات وانغ نينغ، لا نتعامل مع رجل أعمالٍ تقليديٍّ. بل مع "مصمّم مشاعر"، إن جاز التّعبير. فالرّجل لا يتحدّث كثيراً عن الحصص السّوقيّة أو الجداول الماليّة، بل عن "التّجربة" و"الإحساس بالانتماء". وهو ما انعكس على استراتيجيّة الشّركة بالكامل.

نجاح Pop Mart هو في جوهره مرآةٌ لصعود جيلٍ يبحث عن "شعورٍ" أكثر من "منتجٍ"، وعن "هويّةٍ" أكثر من "ماركةٍ". ومن هنا، تصبح قصّة وانغ نينغ ليست فقط عن ثروةٍ متصاعدةٍ، بل عن تحوّلٍ ثقافيٍّ عالميٍّ تقوده الصين النّاعمة... من بوابة صندوقٍ صغيرٍ مغلقٍ.

آخر تحديث:
تاريخ النشر: